التعليم، تكريس للجهد في المؤلف المنهجي، محصور في ذاته، ومتهجة لهدف محدد. أما التعلم، فهو انطلاق نحو اللامحدود، واستمرار لفهم الحياة بأدوات التعليم ذاتها، يستمر الإنسان يتعلم على مدى حياته. الوزارات المسؤولة في هذا الاختصاص اسمها وزارات (التعليم)،وأُضيف إليها مدلول مهم هو التربية، ليصبح اسمها (وزارة التربية والتعليم) بعد أن كان اسمها في مطلع القرن الماضي (وزارة المعارف) وربما كان هذا الاسم جامعاً،
لكون وزارة المعارف مسؤولة عن التعليم والثقافة والعلوم، ومن ثم هي بمثابة (المعمل) الذي تتخلق فيه كوادر المستقبل في الثقافة والعلوم.
والحقيقة أن الإشارة هنا إلى (التَعلّم) هي إشارة مهمة، لأنه الهدف الأسمى للتعليم، وقد أفاض علماء وفلاسفة التربية والتعليم في هذا المجال، ومن أبرزهم في العصر الحديث (بياجيه) الذي خصص أحد أهم كتبه في هذا المجال، كما أن النظر إلى تراث الإمام (أبو حامد الغزالي) والعلامة (ابن خلدون) يُفضي إلى فهم مصطلح (التعلم)، وأن التعليم ما هو إلا مقدمة للاستمرار في التعلم.. أما علماء اللغة والآداب ونقاد الأدب، في تراثنا العربي، فقد كانوا يقولون إن الأديب، هو الذي يأخذ من كل علم وكل فن بطرف. ومعنى ذلك أن يكون ملماً بكل علوم عصره آخذاً منها بطرف، أي أنه ليس بالضرورة أن يكون متخصصاً في علم بذاته، بل إن المتخصص في علم بذاته لا بد أن يكون ملماً بعلوم أخرى تسند علمه وتوسع دائرة معارفه.
والسؤال المهم الآن: هل مدارسنا وجامعاتنا (تُعلّم) طلابها. أم أنها تكرس جهودها (لتعليمهم)؟ بمعنى واضح: هل تتيح لهم أن يأخذوا من كل علم بطرف؟ هل تخترع الأسباب التي تجعلهم يمضون بعد (التعليم) إلى (التعلم). الواقع بكل أسف أن مدارسنا وجامعاتنا على مستوى العالم العربي لا تتيح شيئاً من ذلك، لأنها حصرت جهودها في تعليم الطلاب المناهج المدرسية المقررة فقط، وأهملت ما هو أهم، وهو النشاط (اللامنهجي) الذي يوسع من مدارك المتعلمين، وينطلق بمداركهم نحو المجال الأرحب إلا وهو الحياة والمجتمع.
وربما كان المنقذ، للانفلات من أسر المقررات المنهجية، محدودة الأهداف، هو (النشاطات اللامنهجية) التي أُهملت، ومن حسن حظ جيلي، والذي قبله، أنه استمتع بهذه النشاطات، التي يجد فيها الطلاب الانطلاق إلى عالم أرحب، يمارسون فيها هواياتهم، وتتفتق أذهانهم عن مواهب كامنة، لابد من قدحها، حتى تتولد فيها شرارة الإبداع، فعن طريق موسم الخطابة، تتكشف المواهب في هذا المجال، أذكر أنني تعرفت لأول مرة على كتب (المنفلوطي) وأنا في نهاية المرحلة الابتدائية، وكتبت موضوعاً لألقيه في نهاية موسم النشاطات المدرسية، لقد اخترت موضوعاً من كتاب (الفضيلة) أو (بول وفرچين) ومازلت أحفظ اسمه منذ ذلك الزمن، وكان الموضوع بعنوان (السعادة) أجريت عليه بعض التعديلات بعد أن قرأته جيداً، حتى ينسجم مع المناسبة التي أُلقي فيها هذه الخطبة، ومنذ ذلك الوقت لابد أن ذائقة أدبية ترسبت في ذهني، بدأت تنمو وتكبر، حتى أنني كنت - ولزمن مضى- أُجيد إعادة تحرير (المادة الخام) وهو ما أفادني بعد ذلك في عملي الصحفي، وكتابة التحقيق الصحفي، وإعادة كتابة الخبر، والأهم من كل ذلك أن ذهني تفتق نحو الاندماج في عالم الإبداع الإنساني بكل ما فيه من إمتاع، والاقتراب من النوازع الإنسانية التي جُبلت عليها (النماذج البشرية) التي يُعبّر عنها الإبداع الأدبي في شكل رواية أو قطعة شعرية، أو لوحة تشكيلية، وبعد ذلك مقطوعة موسيقية. ولا أعتقد أن ذهني أو معتقدي بعد ذلك. كان يتسع لأي نوع من أنواع العنف اللاإنساني، وهذا هو المهم. لقد كنا ندرس وباهتمام مبادئ علوم الأصول (الإيمان وأركانه والتوحيد، وأصول الفقه، وأنواع الزكاة، حتى المستغلق منها على فهمنا، ونحفظ أجزاء من القرآن، وكتاب التجويد، والإملاء). وفي المراحل المتقدمة من الدراسة المتوسطة والثانوية، كنا نقرأ ما هو مقرر علينا من تاريخ العالم، وتاريخ الفكر والمذاهب الفكرية الحديثة السائدة، وكنا نستمتع بذلك ونتفهمه، وشطراً من تاريخ الفلسفة وإعلامها في القديم والحديث. وحين بدأت السياسة تدق أبواب كل بلد من بلدان العالم، بدأت الفوارق تظهر بين كل بلدان العالم بأنظمته السائدة، فدست السياسة أنوفها فيما يجب أن يتعلمه أبناء كل بلد، وبدأت تحجب كل ما هو تاريخ وفكر إنساني عن مناهج المعرفة البشرية فتولدت عن ذلك حالة من الانغلاق على الذات، لا ترى إلا نفسها، وما يجب أن تفعله في مواجهة الآخرين، وكأنها قد تشبعت بما يجب على الآخرين أن يتبعوه. هذا الانغلاق هو الذي وَلّد التحجر والتطرف فيما بعد. التطرف في الفهم والفكر، فهم الآخر، وفهم الفكر الإنساني الرحيب، حتى لقد أصبحت المناهج المدرسية في كل بلد، تُفصّل وفقاً لسيطرة نوازعها السياسية والفكرية والدينية. وأي من هذه الاتجاهات يكون صوته هو الأعلى، يكون هو السائد ثم يبدأ التلقين (والتعليم في الصغر كالنقش على الحجر).
هذه الأفكار جالت بذهني، وأنا أتذكر ما كانت عليه المناهج الدراسية، في الثلثين من القرن الماضي، وما آلت إليه الآن، مع ما يوصف به هذا القرن في بداياته من تقدم مذهل، اتضح في نهاياته أنه يمس الجانب المادي من حياة البشر، وهو ما أدى إلى تلمس النقص في الجانب الروحي، فاتجه إذا ما بحث عن هذا الجانب، اتجاهاً حاداً متطرفاً. وما نشاهده ونسمعه من كثرة تعدد الرؤى والفتوى في شؤون الحياة والدين، ما هو إلا مظهر من مظاهر ردة هذا الفعل، وإعلان عن تخلف مذهل في الجوانب الفكرية والسياسية في حياة الأمم والمجتمع، يواكب ذلك تخلف وتردٍ في قيمة وفعالية المناهج المدرسية، وانعدام الأنشطة اللامنهجية المكملة للمنهج الدراسي. لا بد من عودة هذه الأنشطة إلى ساحات المدارس، الأنشطة الرياضية، والأنشطة الثقافية، والخطابة والرسم والمسرح والموسيقى، ولابد أن يتعاظم وجود المكتبة في المدرسة، وأن يتعزز وجود مادة المكتبة كمادة أساسية في المنهج الدراسي.
منذ أكثر من ربع قرن، أخذت (وزارة المعارف) في بلادنا على عاتقها تعميم المكتبات المدرسية، واستحدثت لذلك إدارة خاصة، بدأت في تأمين الكتب لهذه المكتبات على نطاق واسع، وللأسف تعثر هذا المشروع بعد فترة وجيزة من الزمن، وآلت آلاف الكتب إلى المخازن، وتوقف تأمين الكتب لهذه المكتبات، والسبب أن الوزارة شرعت في هذا المشروع، قبل أن تُجهز البنية الأساسية لهذه المكتبات فمعظم، المدارس لم يكن فيها أمين خاص للمكتبة، ولم يكن بالمدارس مُدرس لمادة المكتبة، وليس في كل مدرسة مقر مؤثث للمكتبة وآلات هذه الكتب إلى ركام المخازن.
ولم يكن حال (المكتبات العامة) بأحسن حظ من المكتبات المدرسية، بل أن تاريخ إنشاء المكتبات سابق على استحداث المكتبات المدرسية، وكانت وزارة المعارف هي التي أنشأت هذه المكتبات، منذ زمن مبكر، وضمت إليها مكتبات الأوقاف، وبينها مكتبات تاريخية هامة، كمكتبتي الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، ومكتبة (عارف حكمت) التاريخية وعلى الرغم من تبعية تلك المكتبات لوزارة الأوقاف في حينها إلا أن وزارة المعارف، ظلت بنشاط واهتمام ملحوظ تزودها بالكتب والموظفين والخبرات الفنية. ولابد أن يتذكر التاريخ رجلاً يعود إليه الفضل في إنشاء المكتبات العامة بوزارة المعارف، ومنها (المكتبة الوطنية) بالرياض التي أُنشئ لها مقر حديث (في حينه) بشارع الملك فيصل بالرياض. هذا الرجل هو الراحل (محمد أمين التميمي) أول مسؤول عن قطاع المكتبات العامة بوزارة المعارف، وقد حظي بدعم مباشر من الوزير المثقف الراحل الشيخ (حسن بن عبدالله آل الشيخ) الآن تم ترحيل هذا الإرث؛ إرث المكتبات العامة إلى (وزارة الثقافة والإعلام).
يقول الصينيون في حكمتهم المعروفة:
إذا خططت لمدة عام، فستجني أرزاً. وإذا خططت لمدة عشرين عاماً، فستجني شجراً.. أما إذا خططت لعدة قرون، فستجني رجالاً. فالطريق الأمثل، والتخطيط الضامن لنتائج حقيقية فاعلة، هو بناء الإنسان الإنسان المعتدل الذي يعتنق (الوسطية) في حياته وفكره؛ المكتمل في صحته وعقله. الصحة والعقل مسؤولية تضامنية، ومسؤولية شراكة بين الدولة والأسرة. استنارة العقل في مواجهة الجهل المتجهم، لا تأتي إلا بإشاعة المعرفة، ليس عن طريق المناهج الدراسية (المحكمة والمتحكمة) وهي سحنته الدَّالة عليه، هي أسلوب حياة؛ وهي مصدر قوة المجتمع في مواجهة أي تهديد لأمن المجتمع، وسياج متين لحمايته.
حسب معلوماتي، أن مصر وتونس، هما البلدان العربيان، المتميزيان في مجال المكتبات المدرسية والعامة. وسوف أطرح (تونس) نموذجاً للتميز والحديث عنها في هذا المجال، لقد زرت هذا البلد منذ ثلاث سنوات، وقابلت المسؤولة عن المكتبات العامة بوزارة الثقافة، قالت إن لديهم في تونس أكثر من ستمائة مكتبة عامة، موزعة على القطر التونسي، منها نحو ثلاثمائة مكتبة عامة كبيرة؛ يتم تزويد تلك المكتبات بالكتب بشكل مستمر، وتؤدي خدماتها على مدى العام. بلد صغير بحجم تونس (نحو عشرة ملايين نسمة) فيه هذا العدد من المكتبات، وزارة الثقافة في تونس تُعمم مصادر الثقافة الأخرى في كل المدن والقرى، النشاطات المسرحية، الفرق الموسيقية التي تؤدي أنشطتها في أماكن مفتوحة عبر التجمعات البشرية، شاهدت منها أكثر من فرقة عبر شارع (الحبيب أبو رقيبة) الشارع الرئيسي بالعاصمة (تونس) ما قالته لي السيدة المسؤولة عن قطاع الثقافة والمكتبات العامة بتونس: (إننا في تنافس مع ثقافة الإنترنت. أما التطرف والإرهاب، فليس له مكان لدينا في تونس، لقد هزمنا هذه النوازع بإشاعة الثقافة بكل مصادرها).
E:marspub2002@yahoo.com