كنت أعي منذ أن قررت أن أصبح كاتباً صحفياً بشكل منتظم أن الكاتب لا بد وأن يصطدم بقناعات ستختلف معه، وربما اتخذت منه موقفاً فيه شيء من القسوة في الحكم عليه، أو (تصنيفه) تصنيفاً معيناً بهدف الإساءة إليه. كنت أتوقع ذلك منذ البدء، وهو أمر لا يهمني كثيراً بالمناسبة. غير أن أكثر ما يثيرني تلك الأصوات (المتزمتة) التي تريد أن تضع على الكاتب أغلالاً وقيوداً، وتمارس على الفكر ضرباً من ضروب (الوصاية)، وكأنها تمتلك (الحقيقة)، وبالتالي فإن من خالفها فقد خالف الحقيقة بالضرورة.
والذي أريد أن نعيه وأن نضعه دائماً نصب أعيننا أن الاختلاف والتعددية في الآراء عامل ثراء لا سبب علة. فمن خلال وجهات النظر المتباينة و(المختلفة) يُمكن صقل الأفكار، وإثراؤها، والإضافة إليها، أو الحذف منها؛ هذا فضلاً عن أن الاختلاف جبلة بشرية، والذين يسعون إلى إلغائه هم في الواقع يسعون إلى إلغاء طبيعة بشرية.
في الغرب، مكمن الحضارة المعاصرة، يعتبرون الاختلاف جذوة الإبداع. والرأي والرأي المخالف هو الذي يقود المجتمعات إلى معرفة عيوبها وإصلاحها. وإذا كان مجتمع (أسنان المشط) يعني العدالة والمساواة في الحقوق والواجبات بين أفراد المجتمع كما في الحديث: (الناس سواسية كأسنان المشط)، فإن مجتمع (أسنان المشط) في القضايا الثقافية والفكية هو (خرافة)، ولا وجود له إلا في أذهان بعض (المتشددين) الذين يُحددون سلفاً طول وعرض ومواصفات (المشط) وأسنانه، ثم يفرضون هذه المواصفات لتحقيق هذا المجتمع (المفبرك) سلفاً.
لا بد من تباين وجهات النظر؛ ومن خلال أن نختلف، ثم نتحاور على ما اختلفنا فيه، يمكن لنا صقل الأفكار، وبيان اعوجاجها، وترسيخ مستقيمها، وتفتيح الأذهان على العيوب، وتشخيص الأمراض ثم علاجها، وهذا هو مرمى مؤتمرات الحوار التي رسخها خادم الحرمين الملك عبدالله -حفظه الله- في عهده الميمون. أما أن نصر على رفض الاختلاف، ونسعى إلى كبته، والمطالبة بتكميم أفواه كل من يختلف معك، فهذا يعني بالضرورة (الثبات)، وكبح جماح (الحراك) والتطور في المجتمع.
والتطور والإصلاح والتقويم لا يمكن أن يراه الإنسان إلا من خلال مرآة الآخر، أو الرأي (المخالف). وعندما نلغي تباين وجهات النظر فإننا نكرس الثبات والتكلس، ونضع في طريق الإصلاح والتقويم عقبة كأداء لا يزيحها إلا الاختلاف ومن ثم الحوار.
يقول التاريخ: (لما حج الخليفة هارون الرشيد سمع الموطأ من الإمام مالك، فرغب أن يعلقه في الكعبة و(يحمل!) الناس على العمل بما جاء به، فقال له الإمام مالك رحمه الله: لا تفعل يا أمير المؤمنين، فإن أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- اختلفوا في الفروع وتفرقوا في البلاد، وكل مصيب، فعدل الرشيد عن ذلك).
ولك أن تقارن رأي الإمام مالك بمن يعتبر رأيه هو (الصواب) الذي لا يعتريه الخطأ، ثم يطلب من السلطة وبإلحاح أن تعتمده، وتحمل الناس عليه حملاً؛ رغم أن رأيه هو اجتهاد ضمن اجتهادات، وفي أمور خلافية وليست قطعية، لتعرف الفرق بيننا وبين سلفنا (المتفتح). إلى اللقاء.