نبكي على الدنيا فما من معشرٍ |
جمعتهم الدنيا فلم يتفرقوا |
بينما المرء يعيش مغتبطاً بين أهله ورفاقه، أو بين رئيسه ومرؤوسيه جذلاً في عز ورفعة يسير كيف يشاء يمنة أو يسرة جاداً في طلب تحقيق |
آماله ومآربه، وطموحاته الحياتية المتلاحقة التي لا تنتهي ما دام حيا، ولم يدر بخلده وقوع أي شيء من منغصات صفو عيشه وملذاته، أو أي سبب لهلاكه وموته، ولا سيما من كان يتمتع بصحة جيدة، وبمكانة عالية في محيطه الأسري، والاجتماعي والعملي معاً، وقد يفاجأ بمرض طارئ مارد ومخيف لا يتفاعل مع الكوابح الدوائية التي كثيرا ما يستعين بها مهرة الأطباء مع مرضاهم، فقد يأذن الله بشفائهم على أيديهم، وقد تعييهم الحيل، وحينما يعلم ويتأكد بحلول ذلك المرض داخل خلاياه الجسمانية ولم تجد فيه الأدواء الطبية فإنه قد يصاب بانهيار نفسي أو يستسلم للواقع ويحاول الأخذ بشتى الأسباب عله ينجو ويعطي فسحة من العمر، ولكن هيهات أن يتأتى له ذلك وقد سطر في عالي جبينه مقدار نصيبه من أيام الدنيا الفانية التي لا يتسنى التأخير ولا التقديم فيه ابدا، فها هو الأخ الدكتور صالح بن عبدالله المالك قد تزامن غيابه عن الدنيا مع غروب شمس يوم الاثنين 21-5-1429هـ، وتوارى عن الوجود وعن أحبابه حميدة أيامه ولياليه الحافلة بالعطاء الوظيفي وتعدد المناصب العالية بدءاً من تعيينه معيداً في جامعة الملك عبدالعزيز، ثم أستاذا بنفس الجامعة بعده عين مديرا عاماً بجامعة الإمام محمد بن سعود، ثم وكيلاً لوزارة الشؤون البلدية والقروية ووظائف أخرى، وأخيراً أميناً عاماً في مجلس الشورى، وكان يتمتع بالحنكة والدراية، والمهارة في تذليل وتخطي العقبات بسهولة، وهي التي قد تعترض مسارات العمل الذي كان يرعاه في كثير من المواقع الهامة التي يرأسها ويشرف عليها، مع تنوير وتوجيه العاملين معه بكل لطف، وإيماءات خفيفة تجعلهم يتفاعلون ويتقبلون ذلك بنفوس طيبة، وصدور رحبة تدفعهم على الإخلاص والجد والمسارعة في إنجاز ما يوكل إليهم من أعمال ونشاطات مختلفة، ولله در القائل: |
والنفس إن دعيت العنف آبية |
وهي ما أمرت بالرفق تأتمر |
فالدكتور صالح -رحمه الله- محبوب لدى مجتمعه الاسري، ومع زملائه بل وجميع العاملين معه في جميع المناصب التي تسنمها لما يتمتع به من دماثة خلق ولين جانب، ولقد اكسبته التجارب وتلك الأعمال المنوطة به خبرة واسعة في حسن الأداء الوظيفي، والإداري مع رحابة أفقه ومعرفته بأحوال الناس على اختلاف طبقاتهم ومستوياتهم.. فهو بفطرته وحنكته يستسهل كل الصعاب، وأذكر جيداً يوم كان طالباً بكلية الشريعة أنه على مستوى من الذكاء والفطنة، عالي الهمة يحاول الجمع بين الشهادتين في عام واحد فيسرع في كتابة الأجوبة في الدور الأول، ثم يخرج من صالة الاختبار مبكراً ليتمكن من أداء الاختبار من جامعة الملك سعود- رحمهما الله- الواقعة على شارع الملز - آنذاك- وقد يترك الفترة الثانية إن وجدت بالدور الثاني إذا رأى أنها تتعارض مع مصلحته الدراسية، وفي النهاية يحصل على شهادتين في عام واحد، وهذا يدل على ثقته في نفسه وعلو همته وكأن الشاعر العربي يملي عليه هذا البيت: |
إذا كنت ترجو كبار الأمور |
فاعدد لها همة أكبرا |
وقد فعل -رحمه الله- فأبو هشام صديق عزيز وزميل دراسة لا زميل فصل، وإنما زميل الفصل الاستاذ الشاعر صالح الحمد- متعه الله بالصحة والعافية- فاستمر في التحصيل العلمي والتربوي حتى نال الشهادات العالية، ثم ابتعث إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وظل هناك بضع سنين حتى حصل على درجات علمية متخصصة في مجالات مختلفة منها: اللغة الإنجليزية من جامعة (انديانا) ثم درجة الدكتوراه من جامعة متشجن الأمريكية مع مرتبة الشرف ثم عاد إلى أرض الوطن مغتبطاً مسروراً وكله ثقة بأن يجد ويخلص في أداء أي عمل يوكل إليه.. وهذا يدل على حذقه ومهارته- رحمه الله- وقد بدأ مشواره الوظيفي بجامعة الملك عبدالعزيز، وأخيراً أمينا لمجلس الشورى - كما أسفلنا آنفا- ولنا مع (أبو هشام) ذكريات جميلة لا تغيب عن خاطري أبد الدهر..، منها الرحلة إلى محافظة المجمعة منذ أعوام على متن حافلة فخمة ذات الطابقين لحضور حفل المجمع التعليمي الذي اقيم على نفقة معالي الشيخ عبدالعزيز بن عبدالمحسن التويجري رجاء المثوبة من المولى، ووفاء منه لموطن آبائه ومراتع صباه -رحمهما الله رحمة واسعة-، برئاسة معالي الدكتور محمد بن أحمد الرشيد وزير التربية والتعليم الاسبق التي ضمت كوكبة منتقاة من رجال التربية والتعليم والعلماء ورجال الأعمال ذهابا وإيابا، وقد أتحف أبو هشام الجميع في تلك الرحلة بأشعاره التي تمتاز بالرقة وعذوبة اللفظ، ولا غرابة فإن الدكتور صالح قد ولد في مدينة الشعراء مدينة الرس وترعرع في أكنافها بين والديه، وبين أترابه حتى حصل على الشهادة الابتدائية، ثم اتجه صوب مدينة الرياض ليلتحق بالمعهد العلمي مواصلا الدراسة بكلية الشريعة، وفي تلك الفترة حصل على الشهادة الثانوية من دار التوحيد بالطائف عام 1375هـ، ثم اتجه إلى كلية الشريعة اللغة العربية بمكة المكرمة، فهو قد ملأ وقته متنقلا بين مواقع كثر للتروي من ينابيع العلوم والمعرفة، ثم اختتم مساره العلمي بالحصول على درجة الدكتوراه في علم الاجتماع الحضري من الولايات المتحدة- كما أسلفنا آنفا- والآن وقد دفن ودفنت معه تلك المعلومات التي أفنى زهرة عمره في اقتناصها وتحويشها، وذكرياته الجميلة في دار الغربة أيام الدراسة هناك، وكان يترنم بها ويرددها في خاطره دوما..! ولم يبق منها بيننا سوى طيب ذكره، وما أودعه من معلومات في أذهان تلامذته، وبعض كتبه ومذكراته.. وديوانه صغير الحجم كبير المعنى الذي توجه بقصيدة حرى في رثاء والدته الحنون التي تعتبر واسطة العقد بين القصائد مؤثرة جدا أفرغها من عصارة فؤاده حزنا ولوعة على فراقها يقول في مطلعها: |
لموتك يا أماه ينفطر القلب |
وتلتاع مني النفس والعين واللب |
ولو كنت أدري أن حتفك عاجل |
لما شغلتني عنك أرض ولا حب |
وقد فاضت روحها وفارقت جسدها الطاهر وهو ناءٍ عنها بدار الغربة بمدينة (شيكاغو) الأمريكية لمرافقة ابنه عبدالله في مرضه، وحينما علم بذلك النبأ الذي أفزعه وراعه سارع بالعودة إلى الوطن في أقرب رحلة ليسعد بالصلاة عليها وإنزالها باللحد، وقد كان له ذلك، فالحي مهما تباعدت به الأوطان يرجى إيابه، ولكن غائب القبر لا يعود أبداً: |
والشرق نحو الغرب أقرب |
شقة من بعد تلك الخمسة الأشبار |
وكان رحمه الله ولوعا بالأسفار في جوانب الأرض وأقاصيها حيث طاف حول العالم، وأروى غلة نفسه وعواطفه، ومتع ناظريه من جمال الطبيعة في تلك الأماكن التي مر بها في حياته الدراسية الطويلة والسياحة معا، مما أثرى مخزون ذاكرته لأن العين تلتقط صورا من تلك الأماكن والبقاع النائية والدانية، فترسلها إلى مستودعات الذاكرة ليقتات منها في خلواته عندما يخلد إلى الراحة أو لإمتاع جلسائه بسرد بعضها، ولقد استقيت بعضا من المعلومات عنه بواسطة شريط سجلته عبر الإذاعة في 14-1-1405هـ في حوار معه ومع صديقه الدكتور عبدالله المصري وكيل مساعد للشئون الثقافية والآثار والمتاحف -آنذاك- ولا زلت محتفظا بذلك الحوار تذكاراً طيباً لأيامنا الأول وما تخللها من رحلات متعددة، ومساجلات شعرية لم يبق منها سوى رنين الذكريات، وحينما أحس بدنو أجله بادر برصد بعض أشعاره وهو على السرير الأبيض سرير الرحيل الأخير، وقد سماه (إخوانيات) ليقرأه ويردده من بعده مترحما عليه، ولسان حاله في تلك اللحظات الحزينة يتمثل بهذه الأبيات اللطيفة المؤثرة التي رثا نفسه بها الشاعر الأبيوردي: |
تبلى الأنامل تحت الأرض في جدث |
وخطها في كتاب يؤنس البصرا |
كم من كتاب كريم كان كاتبه |
قد ألبس الترب والآجر والحجرا |
يا من إذا نظرت عيناه كِتْبَتَنا |
كن بالدعاء لنا والخير مدكرا |
رحم الله ابا هشام، وألهم ذويه وذريته، وزوجتيه أم هشام وأم سلطان، ومحبيه بالصبر والسلوان (إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ). |
حريملاء |
|