شيئان لو بكت الدماءَ عليهما |
عيناي حتى تؤذنا بذهاب |
لم تبلغ المعشار من حقيهما |
فقد الصحاب وفرقة الأحباب |
رحمك الله يا أبا هشام (أخي معالي الدكتور/ صالح بن عبدالله المالك) كنت توأماً لروحي- اختار كلانا صاحبه منذ زمن الشباب والدراسة.. اخترتني لما فيك من نبل الأخلاق، وكريم السجايا.. ورجاحة العقل.. وكنت ممتناً بهذه الصحبة، سعيداً بهذه الصداقة. |
منذ التقيت بك ونحن طلاب علم في الولايات المتحدة الأمريكية.. ما غبت عن خلدي يوماً.. وما نسيت ما تمتاز به من علم وفضل، وذكاء، وألمعية، ونبوغ أبداً. |
|
التقينا في طلب العلم.. وكنت أنت - كما هي طباعك اجتماعياً، فتخصصت في علم الاجتماع.. وكم كنت به شغوفاً.. لكنك كنت للغة العربية عاشقاً ملهماً، متمكناً، مدافعاً، وكأنك فيها متخصص أيضاً- لكنه: |
الموت يختار النفيس لنفسه |
كما نختار نحن، فما اعتدى |
قد نال منا درة مكنونة |
كانت لأمثالها الدراري حُسَدا |
درة الفضائل.. درة نادرة في الوفاء، والصدق، والإخلاص يا أبا هشام.. الآن.. أنت في رحمة الله مع الصديقين والشهداء- بإذن الرحمن الرحيم- بعد أن كنت معنا في رحاب العمل من النوابغ الأذكياء.. |
كم جمعتنا لجان العمل وفرقه.. وكم كنت - رحمك الله- العضد المساند، والدرع الواقي، والعمل المعطاء.. كنا نعول عليك كثيراً في تأصيل ما نناقش من القضايا.. ونرى رأيك الراجح فيما نختلف فيه من أمور.. |
رحمك الله.. حُرمنا بفقدك من ثرائك الفكري.. ودفقك العلمي.. وروعة أسلوبك اللغوي.. كم كنت رحب الثقافة، كما كنت رحب الفكر، رحب القلب، رحب الجود في العلم والجاه.. وكأنك نفذت قول الشاعر: |
واصنع لنفسك قبل موتك ذكرها |
|
|
يا أبا هشام.. وأنت في عالم غير عالمنا الأرضي.. كأنك الذي قال فيه شوقي: |
اجعلك رثاءك للرجال جزاء |
وابعثه للوطن الحزين عزاء |
ثكل الرجال من البنين، وإنما |
ثكل الممالك فقدها العلماء |
دار الذخائر كنت أكمل كتبها |
مجموعة، وأتمها أجزاء |
لما خلت من كنز علمك أصبحت |
من كل أعلاق الكنوز خلاء |
ذخيرة في كل شيء.. لكن حتى المرض أراد- بمشيئة الله- أن يجاوره هذه الذخيرة.. وأن يختلط بهذا الجسم. |
حين حل به المرض منذ عام ونصف لم يكن - رحمه الله- مريضاً كعامة المرضى- يخضع للفحص مستسلماً، ويتناول الدواء صامتاً، بل كان لشيء يميزه عن الجميع يراجع مراكز أخرى للطب والعلاج، ليتأكد ويناقش الأطباء فيما يشخصون عنده، وما يقولون عنه، وما يصفون من علاج. |
كان -رحمه الله- مناقشاً فصيحاً.. مدققاً أريباً.. حتى في المرض والدواء.. إذ كان أيضاً يناقش ويسأل عن اسم الطبيب المعالج وشهرته.. والدواء الموصوف ومكوناته، حتى كأنه صيدلي متخصص، وكنت أتعجب حين يشرح لي بالتفصيل عمل بعض أجزاء الجسم، وعلاقة كل منها بالآخر، وكأني أستمع إلى طبيب متخصص في علم التشريح.. |
عانى من المرض.. وإذا كان هذا المرض قد أضعف جسمه فإنه ظل قوي النفس- مرفوع الهامة، عالي المعنويات لا يدخل اليأس حياته.. ولا يعرف القنوط قلبه- ذلك أنني حينما زرته في الصيف الماضي مع صديقي المخلص عبدالله بن محمد العذل.. وكان -رحمه الله- يعالج في (مايوكلنك) كان يبدو عليه الشحوب والجهد.. لكنه لم يعرف الضعف في الحديث.. أو الشحوب في الفكاهة والمداعبة.. بل عاد بنا - رحمه الله- إلى حديث عن أمور ثقافية وعلمية، كما حدثنا عن نوادر نسيناها، وفكاهات افتقدناها، وطرف وملح حرمنا منها. |
وقد قضينا ليلة كاملة سهرناها مع الروح العذبة، والقلب الطيب، والأخ النبيل.. والصديق الوفي الأمين. |
|
وعاد إلى الوطن.. بعد أن أخبره فريق الأطباء المعالج في المستشفى الذي كان يتردد عليه بما آل إليه وضعه.. وقد استأذنهم في أخذ رأي مجمع طبي آخر.. فسافر إلى (هيوستن) لكن الأطباء فيه.. قالوا مثلما قال له السابقون عاد إلى المملكة منذ شهور ليكمل علاجه في مستشفى الملك فيصل التخصصي بالرياض.. |
|
وحول سريره الأبيض كانت لقاءاته مع مئات المحبين والمخلصين لا تنقطع.. ومع الجميع كان متفائلاً يتحدث عن المستقبل، وماذا سوف يعمل.. وكالعادة يناقش معنا بعض القضايا.. |
لكن كانت حالته الصحية تتردى من يوم لآخر، حتى كانت منيته.. بالأمس. |
لقد فارق الناس الأحبة قبلنا |
وأعيا دواء الموت كل طبيب |
سُبِقْنا إلى الدنيا، فلو عاش أهلها |
مُنِعْنا بها من جيئة وذهوب |
إني لفي موقف هو الأكثر قسوة، والأشد جزعاً.. ذلك لأن فقيدنا -رحمه الله- لم يكن رجلاً عادياً.. أو صديقاً كعامة الأصدقاء، لكنه كان كما يوصف الصديق الأصيل (صادق الحب، والقول، والعمل). |
الوطن يفقد الكثيرين من الناس كل يوم.. لكن فقد مثل هذا الإنسان أكبر خسارة، وأعم جزعاً من كثير غيره، لأنه يمثل الوطن أعظم تمثيل، في العلم الذات المعرفية، والثقافة، ونموذج الشخصية النبيلة، والصورة الراقية لهذا الوطن الكبير. |
خسارة الوطن فيك كبيرة.. وخسارتي فيك وحدي عظيمة، فلقد كنت على مدى هذا العمر شريكاً لي في أفكاري.. ملازماً لنفسي.. ما غبت عني.. ولا أنسى يوماً ما كنت تتحدث به معي.. أو ما قدمته من ثروة فكرية لي.. |
لا أنسى إهداءك لي ما سميته (الإخوانيات)، هذا الحشد من القصائد الشعرية التي تنم عن ذاتك النبيلة، وخصالك الكريمة.. وعلاقاتك الحميمية بالجميع، حتى كان العنوان: (إخوانيات). |
نَمْ ملء جفنك بالغدو غوافِلُ |
عما يُروعك، والعشى غوافي |
في مضجع يكفيك من حسناته |
أن ليس جنبك عنه بالمتجافي |
واذهب كمصباح السماء كلاكما |
مال النهار به - وليس بطافي |
الشمس تخلف بالنجوم، وأنت |
بالآثار، والأخبار، والأوصاف |
|
في رحمة الله مستقرك.. وفي عالم الطهر والراحة بقاؤك، والدعاء مستمر لك.. والأرواح ستبقى متصلة بك، وأنت الذي قال فيه أبو الطيب المتنبي: |
|
ففيه لها مغن، وفيها له مسل |
وما الموت إلا سارق دق شخصه |
يصول بلا كف، ويسعى بلا رجل |
رحمك الله يا أبا هشام.. ومكننا أن نلقاك في جنات النعيم.. وما أطيب هذا اللقاء، وما أكرم جوار الله.. |
|