أفكر أحياناً حين أقرأ مقالات الزميلات والزملاء اليومية والأسبوعية الثابت منها والموسمي أو العابر أو ما اصطلح على تسميته صحفياً بأعمدة الجرايد والزوايا الصحفية في عدد من الأسئلة المقلقة التي كثيراً ما يشتد أوارها حين أقف لأراجع شهرياً أو فصلياً أو سنوياً ما خطته يدي من حتوف أو حيوات.
من أحلام صحو وأحلام منام, من آلام أو آمال ومن إحباط ونشوة عام بعد عام بما يتجاوز في جريدة الجزيرة وحدها عشرة أعوام من كتابة الرأي الأسبوعية. ومن تلك الأسئلة الصعبة التي لا أشك أنها لابد تشغل كل كاتب رأي يروم أن يكون صديقا للحق والعدل والجمال وصوتا للصمت والكلام الذي يعتمل في صدور الناس أسئلة تلح بالسؤال تلو السؤال حول ما يشغل طرفي عملية الكتابة وعنصريها الرئيسين أي (الكاتب والقارئ) من قضايا وطنية أو عربية وعالمية وما يفتنهما من هواجس جمالية, وما يجمعهما من مشتركات إنسانية, وما يحركهما من أشكالات اجتماعية, وما يختلفان أو يلتقيان فيه من طروحات ثقافية أو ما يتنازعهما من مواقف سياسية وما يثيرهما من قلق اقتصادي أو أمني أو حقوقي وكذلك ما يربطهما أو يتقاسمهما من المواجهات اليومية. أما السؤال الأقسى المشتبك في نسيج مجموع هذه العينة من الأسئلة المشتركة بين الكاتب والقارئ فهو عندما يسأل الكاتب نفسه بينه وبين نفسه ليس إلا بعيداً عن سلطة القارئ وسلطة الرقيب الإعلامي وسواها من أنواع السلطات الاجتماعية ذلك السؤال الملتبس والحاسم عن مدى نجاحه أو فشله ككاتب في أن يكون متلبسا بهواية الكتابة أو مهنتها حد التورط في نفس الوقت الذي يكون فيه موضوعيا ودقيقا في موضوع ما يكتب حد الحياد المتجرد من كل هوى.
وهذا السؤال السهل الممتنع هو ببساطة ما يعبر عنه بسؤال أمانة الكلمة وشرف القلم وضمير الكاتب سواء في علاقته بالكتابة نفسها أو في علاقته بما يتناوله من موضوعات خاصة إذا كان الكاتب كاتب رأي في القضايا العامة التي تتوجه إلى أو تتماس مع الرأي العام. وهذا السؤال المحوري والأسئلة السابقة عندما تلاحق الكاتبات والكُتاب وتقض مضاجعهم أو تشعل سهرهم فإن ذلك لا يكون ولا يجب أن يكون من قبيل إخضاع الكتابة لمصادرة الرأي من قبل الذات الكاتبة قبل أن تصادره الرقابات المجتمعية, كما أنه لا يكون ولا يجب أن يكون لكي يقوم الكاتب بقص أجنحته بنفسه أو غل ريش الكتابة بأغلال ما يسمى الرقيب الجمعي في مخيلة الكاتب أو مرجعيته الرقابية الجمعية ولكنها أسئلة أطرحها على نفسي بخشونة فيما أكتب عموما وفيما أكتب أسبوعيا هنا، كما أنها أسئلة تطل برأسها حين أقرأ ما يكتب في زوايا وأعمدة الصحف وسواها من كتابات الرأي خاصة تلك المطروحة أو المقروءة عبر وسائل الاتصال المباشر مع الناس كالصحف مثلا بشكليها الورقي والإلكتروني وذلك لممارسة نوع ضروري من محاسبة الكاتب لنفسه بحيث لا يجتر ما يكتب أو يستنسخ ما يكتبه الآخرون وبحيث لا تتحول الكتابة إلى مجرد عادة. وهذه في رأي نوع من أنواع (الرياضة) الضرورية لحيوية ولياقة الكاتب والكتابة معا. وفي هذا أرى أن رياضة الأسئلة والمحاسبة الضميرية والنقد الذاتي رياضة يجب أن يمارسها الكاتبات والكتاب بانتظام حيث لا غنى عنها لمن أراد منا معشر الكُتاب أن يحافظ على حد أدنى من رشاقة القلم فلا نراكم شحوم الرضا بما نكتب ولا دهون القناعة بسقف ما نتطرق له من شؤون بما يربي كروشا للكاتب وللكتابة معا تعيق الحركة وتجعل الحبر متخثرا بالسموم الشحمية السالبة.
وقبل أن أمضي إلى خلاصة الموضوع فلا بد لي من التشديد على ملاحظة أن الكتابة التي أعنيها هنا وكُتابها لا تشير من قريب أو بعيد بل إنها تستثني تماما وبحسم وحزم ذلك المنتج الكتابي المستهلك والمتهالك الذي يمارسه أصحابه بغرض التكسب أو الاستعطاء أو النفاق وتكريس الخنوع عن طريق القلم. وعلى أنني أؤكد أن تناولي لهذا الموضوع هنا يقتصر على ذلك النوع من الكتابة التي لها من الاحترام والحضور ما تستحق معه المناقشة إلا أن ذلك لا يمنع من المصارحة بأنني من واقع المتابعة كقارئة محايدة أو تحاول أن تكون متورطة وموضوعية ما أمكن الجمع بين ما يبدو من النقائض وإن لم يكن بالضرورة كذلك فإنني أكاد أرى أحيانا رؤى العين كروشا منبعجة تطل من بعض المقالات وأكاد أسمع أحيانا لبعض الحروف لهاثا ثقيلا يكشف عما تعانيه بعض كتاباتنا من قلة اللياقة وكثيرا ما أكاد المس لمس اليد كميات من (الكوليسترول) تسبح في حبرنا أو دمائنا نحن معشر الكتاب بما يشي بمدى حاجة الكتابة وحاجتنا ككاتبات وككتاب للتريض بانتظام في هواء طلق ينحت ما قد يتربى حول خواصرنا وأصابعنا من دهون ويعطينا رشاقة تليق بمهمة التحليق التي تتطلبها الكتابة بما يحافظ لنا على لياقتنا أمام ضمائرنا وأمام القراء معا. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
لمسة مشاركة ليس إلا
إلى جبريل أبودية:
لمهند الشاب المبدع الشجاع المشع أملا في أدق وأحلك لحظات الألم ولوالدته الصبور هدأ الله روعها بسلامته من مضاعفات الحادث المروري المفجع ولوالده الزميل الإعلامي أ. جبريل أبودية باقة دعاء حرى في جنح الليل ورابعة النهار بأن يتجاوز مهند هذا الامتحان الذي لا يتجاوزه إلا من يملكون ملكات أقوى من قدرات الجسد. وليخرج الباري مهند من هذا الامتحان وهو أكثر إبداعا وبقامة تطاول النخل شموخا والنجوم بريقا في سماء الوطن والإبداع عما قريب بإذن الله.
إلى د. الحضيف
أما هديل الحضيف تلك الحورية الصغيرة التي ذهبت إلى بارئها وما زال حبرها حارا في حنايا من تسنى لهم متابعة طلات حروفها على الإنترنت وخصوصا من الكاتبات والكتاب الشباب فلا نملك إلا أن نقول: لله ما أعطى ولله ما أخذ، وإنا لله وإنا إليه راجعون، وإن كنا لفارق هديل لمحزنون. ولأم هديل ربط الله على قلبها ولأبو هديل د. الحضيف ثبته الله وأثابهما، ولإخوة هديل وكل أسرتها ولأصدقائها في الفضاء الإلكتروني وفي فضائنا المجتمعي أصدق الدعاء بأن تكون هديل سربا من الحرائر والحمائم في جنة الخلد ليجمعنا الله في رحاب أرحب من فضاءاتنا الأرضية والمتخيلة معا وليفرغ الرحمن صبرا على أهلها وعلى كل من ألهمهم وجود هديل الخاطف نعمة الحب والحرف.
Fowziyah@maktoob.com