فرض هذا العنوانُ طوله، وتكدست فيه المصطلحات، وتفكيكُ مثله مؤذنٌ بجلاء الغموض، وما كنتُ لأخلصَ من إشكاليات المصطلحات حتى أعودَ إليها وتعود هي خدعةً، وأي مشهدٍ تضطربُ فيه المفاهيم يرتهن
لدوامات هوائية تبعثر المتفق عليه، وما دخلتِ الثقافةُ في شيء إلا عمقت الخلاف واتسعتْ معها هوة الفرقة، فهي المصطلح المراوغ، حتى على ذوي الاختصاص، ويكفي أن يكون لها أكثر من مائة تعريف، ولما تزل تطلب المزيد، ولقد حاولتُ في بداية مقاربتها التوسل بجذرها اللغوي المؤدي في دلالته الوضعية إلى ثلاثة أشياء:
- الوِجَادة
- والحِذْقُ
- والتقويم
وقد تقصيت ذلك في كتابي (العولمة والثقافة والتعليم: تصالح أم تصادم) وكل معهود ذهني حين يتداول بآلياتٍ ومناهج معرفيةٍ يلتبس أمره، ويكون الناسُ معه في أمرٍ مريج، وحين نختلف حول مفهوم الثقافةِ نختلف كذلك حول مشخصات المثقف. و(الخطاب الثقافي) مصطلح مركب من مصطلحين، ومن ثم فإنه وإن جمع بين مدلولين متقاربين بينهما عموم وخصوص، فإنه ينشئ مدلولاً ثالثاً لا يكون جماعَ ما سلف، كما لا يقتضي مناقضة ما سلف، وهنا مكمن الإشكالية فماذا نعني ب(الخطاب الثقافي)، إن مصطلح (خطاب) لا يعني الخطبة المنبرية ولا الرسالة الخطية، وإن كان هناك ارتباطٌ بين الجذر اللغوي والدلالة الاصطلاحية عبر مستوياتِ الاشتقاق الثلاثة، ولكنها علاقة إشارية.
والخطاب عند البلاغيين غيره عند المفكرين والساسة والمتأدلجين، ولما كانت الثقافة جماعُ ذلك كله حسنَ أن يوصف بها أو أن تضاف إليه.
و(الخطاب) مصطلح ألسني تنازعته فيما بعد مذاهب واتجاهات لا حصر لها، وهو في مفهومه الاصطلاحي يختلف عن النص والكلام والخطبة: إنه مجمل الإنتاج الفكري الذي تتبناه الأمة عبر مؤسساتها وفي مرحلة تاريخية ومن خلال نخبها وقادة الفكر فيها. وعلى ضوء ذلك فإن ما ينتجه الفرد لا يسمى خطابا لأن للخطاب بمفهومه الاصطلاحي ارتباطاً كيانياً ومرحلةً زمانية، ومرجعيةً أيديولوجية، وقد لا تجتمع كلها لدى الفرد حين يتحدث عن قضية أو ظاهرة، أو حين يتبنى رؤية أو مشروعا علميا، ولسنا بحاجة إلى أن نلتمس الفرق بين الخطاب والمشروع، فالمشروع قد يستقل به الفرد، أما الخطاب فهو ظاهرة مرحلية جمعية أيديولوجية.
وأستطيع تأطير مصطلح الخطاب بثلاثة سياجات:
- المؤسساتية.
- الزمانية لا بوصفها الظرفي وإنما بوصفها التاريخي.
- الأيديولوجية الشمولية.
وقد يكون للألسنيين والبلاغيين رؤية مغايرة، ولكن المصطلح حين يكون مشتركاً تكون له مفاهيم متعددةٌ، قد لا يستبينها المخفون من القراء الذين يسميهم طه حسين بالمترفين، والمشاهد الفكرية والسياسية والدينية لها خطاباتها المتوازية أو المتقاطعة، أو المتعارضة، وليس من مصلحة أي خطاب أن يجنح للصدام، لأن أقل الخسائر التعثر في الإنجاز أو الإبطاء في التجاوز، وإذ يكون أقوى الخطابات وأمضاها وأعمقها الخطاب الإسلامي فإن الخبير العليم يأمر رسوله بالجنوح إلى السلام، وما دخل الرفق في شيء إلا زانه، وكم هو الفرق بين السلام المتوازن والاستسلام المجحف، ولحفظ التوازن والندية والتكافؤ أمر الله بإعداد القوة الرادعة. والتشنج وتعمد الاستفزاز مهنة المفلسين الذين يسدون النقص بشغل الرأي العام بالتساؤلات والتحفظات والإثارات.
والتحول الذي نراه من لوازم الحياة لا يعني التخلي عما لا تقوم الحضارة إلا به، ومحققات حضارة الانتماء هي الخصوصية التي نود تجليها، كما أن الاستصحاب لا يعني الاستغناء، وبين هذا وذاك مكمن الصعوبة والخطورة ومجال التنازع.
إن الرحيل بالتراث يختلف عن الرحيل إليه، وإشكالية المشاهد أن الفرقاء قد يصابون بعمى الألوان، ومن ثم يظنون أن اختلاف المفاهيم مؤذن باختلاف المواقف والأداء، وإذ نجنح إلى إنضاج القضايا بالحوار فإن هذا الجنوح لا يفرض التخلي عن محققات الخصوصية أو الفكاك من النسق، ولو أن المسلمين لحتمية التحول يعون القدر والنوع لقضت المشاهد على الكثير من بؤر التوتر وكم من فرقاء استحوذت عليهم الشحناء، حتى إذا استبان لهم الحق أدركوا أنهم جميعا في خندق واحد وعلى مدرجة واحدة، وما من خطاب إلا هو آخر بمحققات وجودة الكريم، ومبدأ التعددية مسلم له متى استطاع الجميع التعايش أو التعاذر، على مبدأ {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}وعلى ضوء {لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ} ومكمن الاضطراب في وعي المحققات للذات على وجهها، والعمل على تفادي الصدام، وذلك أضعف الحلول، وكم من مأخوذ ببوارق التجديد يظن أن محققاتها لا تكون إلا بالتخلي عن الثوابت والمسلمات. والنسق والخصوصية حين يعزلان الخطاب الثقافي ويحملانه على الانكفاء على الذات يشكلان عقبة في طريق الأداء السليم، والتأكيد على استصحابهما لا يعني التمترس خلفهما. ولأن النسق يتشكل ذاتيا فإن الخطاب يستمد منه ويحيل إليه، وقد لا يستوفي متطلباته عند البعض فيكون ريشة في مهب الريح، وما أكثر الذين استحوذ عليهم النسق فأنساهم أنفسهم وحقوقها وفي المقابل ما أكثر الذين انفلتوا من نسقهم فانطمست شخصياتهم، وتحقق الخصوصية لا يكون على وجهه حتى يتوفر الخطاب الثقافي على مكوناته المستجيبة للمرحلة بكل ما هي عليه من انفجار معرفي وثورة في الاتصالات.
وكم من خائف يترقب يحسب أن من محققات الخصوصية والهوية الرحيل إلى الماضي والارتماء بأحضانه، وكأن الأول لم يترك للآخر شيئا، وهذا مبعث صراع المحافظة والتجديد. وبين التخلي بلا رؤية والتمسك بلا وعي ينشأ التنازع وتذهب الريح، وإن كان ثمة نقمةٌ أو تحفظٌ فإنه ضد أولئك الذين لا يهتمون بالأصالة والهوية، إذ لا يمكن تصور أي ثقافة بدون تأصيل معرفي وإبراز فاقع للهوية والخصوصية، واسترفاد شيء من النسق، وما من عقيدة لا يحافظ المنتمون إليها على صفائها نقائها إلا كانت المناعة عندهم دون المؤمل، وفقد المناعة في تلوث العقيدة، والمجددون الحقيقيون هم الذين يحفظون جناب التوحيد لأنه مدار عظمة النفس وكافة الضرورات الخمس، ثم لا يتهيبون فري القضايا للوصول إلى أحسنها.
وليس عيبا أن تكون لكل مثقف مشاربه وأنساقه الثقافية ولكن العيب أن تسهم المشارب والأنساق في طمس الهوية وإذابة الخصوصية، ومتى أعطى النخبوي نفسه حق الانتماء فإنه ليس من حقه أن يصادر حقوق الآخرين، وليس من محققات الانتماء رفض الخطابات الأخرى أو التعالي عليها أو ممارسة التصدير والمفاضلة، وهذه التحفظات لا تعترض على الاعتذار بالانتماء ولا تحول دون طرح المشروع للاقتفاء. فالأمة الإسلامية صاحبة رسالة ومهمتها الدعوة بالتي هي أحسن {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}.
والاختلاف مع الآخر لا يستدعي المواجهة ولا الصدام ولا القطيعة {لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}وانظر إلى تكراره (في الدين) والتمس مقاصد ذلك ومحدداته.
يتبع