وأكاد أجزم أنه منذ وجد الشعر والناس في صناعته وبلاغته وقوة أسلوبه وفنية نظمه وحكمته وسحر بيانه وخصوصياته يختصمون فيه، ويحتدم الجدال فيما بينهم في معانيه ويصر كل منهم على تعزيز رأيه فيما يقوم به من دراسة نقدية لمعنى من بعض معانيه التي يلفها الغموض.
وعندما تتشعب الآراء حول مفهوم من المفاهيم فإنهم يتفقون على مقولة مشهورة هي (المعنى في بطن الشاعر) ليقفلوا الجدال فيما لم يوضحه الشاعر.
والشعراء الذين يملكون نواصي لغة الشعر الصحيح هم الذين يكون لشعرهم مفاهيم واتجاهات تغيب مقاصدها عن ساحة أذهان شراح قصائدهم ويصبح الهدف الذي يقصدونه بعيداً عن تعليلات النقاد، لأنهم بثقتهم بصحة ما يقولون لا يهمهم فَهِمَ الناس قصدهم أم لم يفهموا، بل إن منهم من يخبر مسبقاً بأن الناس سيقعون في خلاف عند ترجمة أهدافهم التي وضعوها في قالب الشعر.
ولقد قدم لنا المتنبي تنبؤه بما سيحصل من خصومات في شعره فقال:
أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الخلق جراها ويختصم(1)
والصدق في قوله يظهر فيما نقرؤه من دراسات لشعره
(1) ديوان المتنبي
شرح عبدالرحمن البرقوقي ج4، ص108.