Al Jazirah NewsPaper Thursday  22/05/2008 G Issue 13020
الخميس 17 جمادى الأول 1429   العدد  13020
أطياف الذكريات

عندما ضرب الليل البهيم أطنابه على الكون ونشر فلول دياجيره على أرجائه، جثم السكون بكلكله على أجواء القرية القابعة بين جنبات التلال تحتضنها أشجار النخيل الباسقة وتحف بها الخضرة الوارفة.

نام الجميع إلا هي ظلت مستيقظة في مضجعها تحيط بها غيوم الصمت، والسكون الذي يغلف كل الأشياء من حولها فلا حراك ولا أصوات عداء وقعات بندول الساعة الذهبية المثبتة على الحائط وهو يذرع الثواني ينهب الدقائق يطوي الساعات أخذت تتقلب يمنة ويسرة بين أمواج الظلام الدامس الذي تطفح به غرفتها عل نسمات النوم تهب عليها فتنقلها من هذا العالم الجليدي الجامد الذي يسكنه الصمت الموحش إلى حلم سعيد يحلق بها في عالم السعادة التي افتقدتها منذ أن افتقدت أبويها، ولكن الحزن والهم اللذان جعلا من قلبها موطئا ومقرا أذابا النوم في عينيها.

ضاقت بهذا الوضع ذرعا فنهضت من مضجعها تجر خطاها المثقلة تتحسس طريقها في الظلام متجهة نحو أزرار الضوء ضغطتها فعم طوفان النور الغرفة يلتهم فلول الظلام.

تناولت كتابا فوق مكتبها علاه الغبار علها تجد فيه ما يشتت حشود الملل والضيق التي تحاصرها أزاحت الستائر المنسدلة على النافذة جلست على المقعد المقابل لنافذة فتحت الكتاب إلا أنها لم تقرأه فقد كان فكرها شاطحا بعيدا. تسللت عبر النافذة أنسام المساء الباردة مشبعة بعبق الماضي السعيد أحدثت قشعريرة في جسمها النحيل المتهالك اقتحمت ساحة نفسها نفذت إلى قلبها أبحرت في دمها غاصت في أعماقها لوعة حارقة وآهات كاوية كأنها جمرة هوت في قاع ذاتها أحدثت دويا تجاوبت معه محانيها فأيقظت بدويها ما كان غافيا في أعماقها خلف ستور الذاكرة من ذكريات جميلة مع إخوتها وأبويها اللذين رحلا وتركاها نهبا للوحدة.

هامت في عالم الذكريات حتى خل لها أنها تراهم تسمع ترانيم ضحكاتهم تعج بها غرفتها تخترق السكون الذي يحتوي كل ما حولها وهم يتحلقون حول الموقد في الليالي الشاتئة حيث كانت أمها تضع ثمرة الشتاء (الكستناء) المفضلة لديهم جميعا في الموقد، وتراهم وهم يتسابقون على الجلوس بجوار والدها لينعموا بالدفء بقربه، أسندت ظهرها إلى الكرسي تنفست بعمق لتخرج زفرة كادت تتهاوى لها أضلاعها لتطفئ لهيب تلك الآهات الحرا لا.. لا.. لا يا نجوم الليل لا يا مضيئة مساءاتي المظلمة إلا الدموع لقد امتلأت حياتي بالدموع غرقت في بحرها المتلاطم وأنت طوق النجاة.

نهضت متجهة نحو النافذة صوبت بصرها إلى السماء التي جللها الليل بردائه الأسود رمقتها بعينين ذابلتين من كثرة سكب الدموع أخذت تناجي رفيقتها ومؤنسة ليلها.

أيتها النجوم الكامنة في عليائك البراقة في سمائك يا من سكنت الأبراج العالية ما هذه الدموع المترقرقة في مقلك، والعبرات المخنوقة في صدرك؟! هل تشكين من الجوى وألم النوى؟! هل أصابك الزمان بسهامه الغادرة، وطعناته القاتلة مثلي؟! فطوى أهلك وأحبابك الذين كنت تنعمين في أكنافهم فارهة العيش مرهوبة الجانب فأصبحت بعدهم وحيدة منبوذة تنزوين في ردهات الوحدة وتترنحين في سفوح الذل بعد أن كنت ترفلين في ذروة العز بعد ان كان الحب يجودك بغيثه الجم صار يمن عليك بقطرات زهيدة لا تروي ظمأك ولا تبل شفتيك ترددين منزوية في ركنك قول الشاعر:

ذهب الذين يعاش في أكنافهم

وبقيت في خلف كجلد الأجرب

لا يا نجوم الليل لا يا سميرتي ومؤنستي لا يا من جملت رداء السماء الأسود ببريقك الفضي ذلك البريق الذي ينساب في أعماقي نورا يضيء ظلمة روحي كلما اكفهرت لي دنياي وكشرت عن أنيابها ولفتني بسوادها، وأوصدت في وجهي بابها اتجهت إليك أراقبك في عليائك وسيرك في أفلاكك فأغبطك على بعدك عن أرض الحقد والشر والحسد فأتمنى مرافقتك في عليائك والسكن بجوارك ما أسعدك بعيدة عن البشر وشرورهم وأحقادهم.. بعيدة عن جور القريب، وغدر الرفيق، ونكران الصديق.. بعيدة عن ذلك الأخ وقد تنمر لأخيه يحد له خنجره المسموم ليغرسه في صدره من أجل غثاء الدنيا الفانية.. بعيدة عن ذلك الرفيق وقد وارى غدره وزيفه خلف قناع الود والإخلاص الزائف ليخفي حقيقته وراءه.. بعيدة عن ذلك الصديق الذي يخفي خلف الفراء الناعم البراق - الصداقة - ذئبا غادرا مفترسا منتهزا للفرص يلبسه حتى يقضي مأربه فإذا نال مطلبه رمى به تحت الأقدام تدوسه في الوحل أو بعد هذا تحزنين؟!! وقد كفاك الله كل هذا، وأسكنك الأبراج العالية تنعمين فيها بالنسمات النقية التي لم يلوثها غبار الشحناء والبغضاء الخانق، وبالنمير الزاك الذي لم تخالطه سموم الحقد والحسد القاتلة، أوبعد هذا تحزنين ولدموع تسكبين؟؟!!

لا.. لا يا نجوم الليل دعي الحزن والدموع لي فأنا أولى وأحق بهما منك فقد أدمت قلبي طعنات الزمان، وغدر الأخوان، وخيانة الخلان.

آه يا سميرتي ومؤنسة مساءاتي لمن أبث حزني وهمي الذي أثقلني حملهما لن أبثك بعد الليلة، لن أحملك حزنا وهما فوق حزنك وهمك، لن أحملك أثقالا فوق أثقالك ويؤسفني أن أقول لك اذهبي أدراجك وكل يكفيه همه وحزنه اللذان ينوء بهما قلبه.

وبعد أن أفاضت بما في قلبها لمؤنستها وسميرتها واستفرغت ما في نفسها كان ضوء النهار يحيط بأذرعته الأفق يزيح لثام الليل الأسود عن وجه السماء إعلانا عن قرب استيقاظ الشمس من سباتها عندها أخذت النجوم تتوارى في خجل من ضوء النهار الفاضح وبدأ النوم يداعب أجفانها فأوصدت أبواب قلبها بإحكام على أحزانها وآلامها وذهبت إلى مضجعها وراحت في نوم عميق.

فوزية بنت سعيد البيشي



 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد