هل بوابة الحب حصينة ثابتة في أيامنا هذه؟ وهل تحرسها قيم إيمانية راسخة؟ الجواب لدى الكثيرين معروف - طبعاً - وهو النفي.. لأننا نقرأ ونشاهد ونستمع إلى كلمة الحب في اليوم مرات عديدة في وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة.. لقد أصبحت سلعة يتجر بها مصممو الكتب الدعائية وكتاب الروايات والشعراء ومخرجو الأفلام والمسلسلات التلفازية والبرامج الإذاعية.. أما هدف استخدامها فهو الإثارة وجذب الانتباه سواء بكلمة معسولة أو قبلة أو حتى مشهد غرامي كامل، وللإنترنت دور كبير في هذا، ولا تهدف هذه الوسائل في استخدامها لهذه الكلمة إلى تسجيل موقف تاريخي أو معاصر فيه ترسيخ للقيم الإيمانية الصادقة، فهي بذلك لا تطبق سوى التفسير الإعلامي لمصطلح حارس البوابة Gatekeeper) فالحب كلمة عبور للجمهور المتلقي ليس أكثر، أما الحب بمعناه الحقيقي فعلى العكس من ذلك.
فالتاريخ الإسلامي مليء بهذه الأمثلة، ففي قصة الهجرة النبوية نقرأ عن الحب بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر الصديق رضي الله عنه.. فحينما نام النبي صلى الله عليه وسلم على حجر الصديق الذي مد رجله ليسد ثقباً في الغار، لسعت الحيات قدمه رضي الله عنه فذرفت عيناه الدموع التي تساقطت على وجنتي النبي صلى الله عليه وسلم.. لم يشأ الصديق رضي الله عنه أن يزعج حبيبه صلى الله عليه وسلم بتحريك - حتى- ولو فخذه!! وحينما استيقظ صلى الله عليه وسلم شاهد دموع صاحبه تذرف من عينيه فرقاه وبرئ من لسع الحيات.. أليس هذا الموقف ذروة في الحب والتفاني والإخلاص؟ أليست تلك الدموع هي دموع الإعجاب بالبطولة الذي وصفه الأستاذ عباس العقاد بانفراد أبي بكر به عن بقية الصحابة رضوان الله عليهم؟ نعم إنها دموع بطل على وجنتي سيد الأبطال في الكون كله، وسار النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه فكان صاحبه يبكي فرقاً كلما أحس بخطر داهم كمطاردة سراقة بن مالك لهما، فكان النبي صلى الله عليه وسلم يطمئنه بقوله: (يا أبا بكر ما بالك باثنين الله ثالثهما؟!).. إنه قول يؤكد حصانة بوابة الحب بينهما وحراسة هذه البوابة بالإيمان بالله وحده لا شريك له.. ليست هناك مصالح مادية دنيوية تحرس تلك البوابة، بل هناك دموع صادقة تعبر عن خوف الصديق رضي الله عنه على صاحب الدعوة الذي لو قتله أحد من قريش ماتت الدعوة في مهدها ولم تقم لها قائمة.
أما الموقف الثاني فكان من عمر بن الخطاب رضي الله عنه - حينما قال النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة: (لا يؤمن أحدكم حتى أكون حب إليه من أهله وماله ونفسه).. فتساءل الفاروق: حتى نفسه يا رسول الله؟ فأجابه: (حتى نفسه التي بين جنبيه).. فقال عمر مستسلماً: بأبي أنت وأمي يا رسول الله.. ما معنى ذلك؟ معناه ارتباط الحب بحارس أمين هو الإيمان.. واتباع السنة النبوية قولاً وعملاً تبعاً لقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به)، والهوى ميل قلبي زائغ، أما الحب فيحرسه - إلى جانب الإيمان العقل - ولذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (إذا تعاورك أمران فخذ أقربهما إلى العقل).. والتعاور هنا يعبر عن الحيرة كأن يقول الإنسان لنفسه: هل أسلم على فلان إذا تقابلنا؟ ويكون بينهما قطيعة.. والأمر الأقرب إلى العقل هنا هو المبادرة بالسلام، أخذاً بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من بدأ بالسلام)، وهنا تأتي (الخيرية) مقياساً للحب أو بالأحرى للأخلاق، ومن تأمل في عاقبتها وطبقها على نفسه وجد متجراً رابحاً في الدنيا والآخرة..
ويسجل التاريخ موقفاً ثالثاً رائعاً يوم فتح خيبر.. فحينما وصل النبي صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وعسكر بجيشه قربها وصلى العشاء قال: (ليحملن الراية غداً رجل يحب الله ويحبه الله).. فنام الصحابة وكل منهم يتمنى أن يكون ذاك الرجل، وفي الصباح أمر النبي صلى الله عليه وسلم بإحضار علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فقيل له إن بعينيه رمداً، فرقاه وبرئ من الرمد.. ثم أمره بحمل الراية وألا يلتفت خلفه وأن يدعو مرحباً وزمرته من اليهود إلى الإسلام أولاً فإن استجابوا وإلا قاتلهم، وحينما مضى حامل الراية بأمر القائد، ناداه صلى الله عليه وسلم، فرجع القهقرى إلى الوراء ولم يلتفت.. هكذا بدأ تنفيذ أمر القيادة النبوية بحذافيره منذ الوهلة الأولى.
وتم اللقاء فخرج إلى علي رضي الله عنه أخو مرحب وهتف بأخيه متعجباً: هذا الذي جاء عندنا وصفه في التوراة!! فهل كانت كلمة الإشارة في التوراة تأكيداً للحب بين الله عز وجيل وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه؟ إنه سؤال كبير عميق الدلالة والمغزى ذو قيمة إخبارية إعلامية.. وإذا كانت التوراة أشارت إلى علي، فالإنجيل - بعد ذلك - أخبر عن أحمد صلى الله عليه وسلم وأكد القرآن الكريم ذلك بقوله تعالى على لسان عيسى بن مريم عليه السلام:
{ وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُم مُّصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءهُم بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُّبِينٌ (6) } سورة الصف.
وفي معركة مؤتة حينما سقط زيد بن حارثة رضي الله عنه بكي عليه النبي صلى الله عليه وسلم بصوت عالٍ، فاستنكر الصحابة ذلك فقال لهم: (إنه شوق الحبيب إلى الحبيب).. لقد كان زيد مولىً عند رسول الله وكاتب الوحي ورسائله صلى الله عليه وسلم، فكيف لا يبكيه ولا يشتاق إليه، وهو الوحيد الذي ورد اسمه في القرآن الكريم، قال تعالى: { فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَرًا (37) } سورة الأحزاب، وبذلك أصبح اسمه متعبداً به في القرآن.
وإذا كان الظل - كما نعرفه - فيئاً نفيء إليه في الصحراء وفي أسفارنا البرية حينما نتوقف للاستراحة تحت ظل شجرة أو مبنى، فإن ظل يوم القيامة لا يناله إلا سبعة منهم (اثنان تحابا في الله وافترقا عليه).. كما يقول النبي صلى الله عليه وسلم.. إن ظل الله يوم القيامة لا ظل غيره، يوم تدنو الشمس من الأرض ويوم يبلغ العرق بالناس حتى يغطي رؤوس بعضهم.. كل بحسب عمله، أما الحب في الله فهو حارس لنفسه في ذلك اليوم العصيب يوم تبيض وجوه وتسود وجوه، وتنشر الصحف وتعرض الأعمال ويقول الإنسان: نفسي نفسي.. لكن المتحابين في الله يقفان تحت ظل الله يوم لا ظل إلا ظله فهنيئاً لهم.
إن الرحمة لابد من التنويه بأهميتها في الحب.. وهي ليست حارسة له بقدر ما هي روحه كالمودة نفسها، قال تعالى:
{ وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } (21) سورة الروم، وهذا الأمر متعلق بالزوجين وعليه تبنى الحياة الزوجية الناجحة المبنية على مبادئ الأخلاق والقيم، وليست مبنية على المصلحة الدنيوية التي لا بأس بها ولكنها ليست جوهراً بحد ذاته وحارسة لبوابة منهارة منذ البداية كما أن (الود) خاص بمن آمن وعمل صالحاً حيث يقول الله عز وجل: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) } سورة مريم، وهذا الود بوابته الإيمان، والعمل الصالح والمواظبة عليهما حراسة له، أما مودة آل بيت النبوة فهي مطلب حيوي للإنسان المسلم اعترافاً بفضل النبي صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: { قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى (23) } سورة الشورى، وما توفيقي إلا بالله.