Al Jazirah NewsPaper Wednesday  21/05/2008 G Issue 13019
الاربعاء 16 جمادى الأول 1429   العدد  13019
أمريكا العاجزة
شلومو أفينيري

القدس أتى العيد السنوي الستون لتأسيس دولة إسرائيل، ثم ذهب كما أتى.. وكذلك كانت زيارة الرئيس جورج دبليو بوش الأخيرة للشرق الأوسط.. ففي خضِم الاحتفالات ومراجعة الذات، لم يتحقق أي تقدم ملموس على الطريق المسدود الذي بلغته المفاوضات الإسرائيلية الفلسطينية.

ثمة أسباب مباشرة أدت إلى هذا الجمود: فحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود أولميرت ضعيفة وغير شعبية، نتيجة للحرب الخرقاء التي شنتها في العام 2006 ضد حزب الله في لبنان.. أما السلطة الفلسطينية تحت قيادة محمود عباس فهي أشد ضعفاً، بعد أن خسرت السيطرة على غزة لصالح حماس في أعقاب محاولة الانقلاب العنيفة التي شهدها العام الماضي.

على الجانب الفلسطيني، يشكِّل هذا جزءاً من ظاهرة أكثر عمقاً: والتي تتجلى في الفشل القديم المتواصل في إنشاء البنية المؤسسية اللازمة لبناء الدولة. على سبيل المثال، أثناء الفترة من العام 1936 إلى العام 1939 ثار الفلسطينيون ضد الحكم البريطاني، إلا أن ثورتهم تحولت في النهاية إلى حرب أهلية دموية، قُتِل فيها من الفلسطينيين على أيدي إخوانهم أكثر ممن قُتِلوا بواسطة الجيش البريطاني أو قوات الدفاع عن الذات اليهودية.. ويتكرر نفس الموقف الآن في غزة.

حين نراجع الستين عاماً التي مرَّت من عمر التدخل الأمريكي في المنطقة، نستطيع أن نستكشف سيناريوهين قد تتمكن الولايات المتحدة من خلالهما من دفع الأطراف المحلية إلى الاتفاق على التسوية. وفي غياب هذين الظرفين تصبح الولايات المتحدة بلا أي حول أو قوة.

يتلخص السيناريو الأول في اندلاع حرب حقيقية تهدد بالتحول إلى صراع أوسع انتشاراً، وزعزعة الاستقرار في المنطقة والإخلال بعلاقات القوى العظمى تحت ظروف كهذه سوف تتخذ الولايات المتحدة الخطوات اللازمة لوقف القتال وفرض وقف إطلاق النار، إن لم يكن السلام.

في العام 1973 ومع إشراف حرب عيد الغفران (يوم كيبور) على نهايتها، كانت إسرائيل على وشك تطويق الجيش المصري الثالث في سيناء بالكامل.. وكانت قواتها على الطريق إلى القاهرة، وتهدد بإلحاق هزيمة ضخمة بمصر. عند هذه النقطة تحول التدخل السوفييتي إلى تهديد حقيقي.. وبعد القليل من الرسائل شديدة اللهجة التي وجهها الرئيس ريتشارد نيكسون إلى إسرائيل توقف الإسرائيليون عن التقدم وتمكن الأمريكيون من الشروع في عملية مطولة من التهدئة، أدت في النهاية إلى عدد من الاتفاقيات المؤقتة.

على نحو مماثل، أثناء غزو لبنان في العام 1982، كانت القوات الإسرائيلية على وشك الدخول إلى بيروت الغربية التي كانت تحت سيطرة المسلمين بعد أن اغتال عملاء سوريون الرئيس اللبناني الموالي لإسرائيل بشير الجميّل.. ولربما كان ذلك ليؤدي إلى جر سوريا إلى الحرب.. ولكن بعد القليل من الاتصالات شديدة اللهجة من جانب الرئيس رونالد ريغان رجع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحم بيغين عن قراره باقتحام بيروت الغربية.

أثناء حرب الخليج الأولى في العام 1991، حين أطلقت العراق 39 صاروخ سكود على أهداف مدنية إسرائيلية، ومع فشل قوات الولايات المتحدة في منع الهجمات العراقية، كانت إسرائيل تستعد لضرب أهداف عراقية، الأمر الذي كان ليؤدي إلى إحداث انقسام خطير في التحالف بين الولايات المتحدة والعرب في مواجهة العراق.. ولقد حذرت الولايات المتحدة إسرائيل من التورط، وأرغِم الجانب الإسرائيلي على الانصياع.

في كل تلك الحالات، كانت التدخل الأمريكي سريعاً ومركزاً على هدف واضح، وكان الانصياع واضحاً في غضون أيام، إن لم يكن في غضون ساعات.. في مثل هذه المواقف غير العادية تتجلى قوة الولايات المتحدة في أوج عظمتها.

أما السيناريو الثاني فقد يتأتى بعد أن يكون الجانبان قد انخرطا بالفعل في محادثات سلام ثنائية، بعد تسديد كل منهما للثمن السياسي في الداخل، والتوصل إلى اتفاق حول أغلب القضايا، إلا أن بعض الأمور تظل معلقة وتهدد بإفشال العملية. في مثل هذه الحالات تستطيع الولايات المتحدة أن تتدخل وأن تستعين بسياسة الجزرة والعصا لإرغام الجانبين على استكمال المسيرة حتى النهاية.

بعد زيارة أنور السادات للقدس في العام 1977، تفاوض الجانبان الإسرائيلي والمصري لمدة عام ثم توصلا إلى اتفاق على أغلب القضايا: السلام، والعلاقات الدبلوماسية، والانسحاب الإسرائيلي الكامل من كل الأراضي المصرية المحتلة في سيناء. عند هذه النقطة، بادر الرئيس جيمي كارتر - الذي عارض العملية في البداية - إلى دعوة الجانبين إلى كامب ديفيد لصياغة معاهدة سلام.

أثناء العام 1993، وفي إطار مفاوضات ثنائية سرية جرت في النرويج (بغير علم الولايات المتحدة)، توصلت إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى اتفاق بشأن الاعتراف المتبادل وتأسيس السلطة الفلسطينية المستقلة المؤقتة.. إلا أن بعض القضايا ظلت معلقة.. وهنا تدخل الرئيس بِل كلينتون وأرغم الجانبين على حل الخلافات المتبقية.

حين يغيب هذان السيناريوهان فإن المبادرات الأمريكية تولد ميتة.. وهذا ما حدث مع كلينتون في كامب ديفيد في العام 2000، حين أخفق في حمل رئيس الوزراء الإسرائيلي إيهود باراك ورئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات على الاتفاق، وهو نفس ما حدث مع بوش وخارطة الطريق في العام 2003، حين اتفق الجانبان من حيث المبدأ على خطوطها العريضة، إلا أنهما لم يبذلا إلا أقل القليل من الجهد لتنفيذ ذلك الاتفاق.

في غياب الإرادة السياسية المحلية، وفي مواجهة مشروع سلام قد يستغرق سنوات حتى يكتمل، تصبح الولايات المتحدة عاجزة تقريباً. إن الولايات المتحدة ناجحة للغاية في العمل كفرقة إطفاء أو كقابلة، إلا أنها لا تصلح كطرف مبادر.. وما ينطبق على الولايات المتحدة يصدق بصورة خاصة بالنسبة للاتحاد الأوروبي، الذي لا تُضاهي (قوته الناعمة) افتقاره إلى المصداقية على المستوى المحلي.

ونستطيع أن نرى نفس الديناميكية في مكان آخر: فرغم قوتها العاتية فشلت الولايات المتحدة في حل الصراع في قبرص، والبوسنة، وكوسوفو. لقد أخفقت خطة أنان في قبرص بسبب معارضة حزب واحد؛ والتقدم الحاصل الآن (الحدث الذي يُشكّل أهمية رمزية كبرى رغم بساطته، والذي تمثل في افتتاح معبر شارع ليدرا في وسط مدينة نيقوسيا) يعكس التغيير السياسي الداخلي على جانب القبارصة اليونانيين. وعلى نحو مشابه، إذا ما غيرت بلغراد موقفها العنيد إزاء كوسوفو، فلن يكون ذلك نتيجة لضغوط من جانب الولايات المتحدة أو الاتحاد الأوروبي، بل نتيجة للتغييرات السياسية الداخلية في صربيا.

إن إدراك حدود قوة الولايات المتحدة لا يعني أن أمريكا ليست ضالعة: فهي قادرة على موازنة الصراعات، والمساعدة في عملية بناء الثقة والتوصل إلى اتفاقيات مؤقتة.. ولكن في حالة إسرائيل وفلسطين، كما هي الحال في أي صراع بين حركتين وطنيتين، لن نجد الحلول إلا بين أيدي الأطراف المعنية المحلية.. ولم يحدث من قبل قط أن تمَّ التوصل إلى حل لأي صراع وطني بواسطة قوى خارجية، رغم كل النوايا الحسنة.

* شلومو أفينيري أستاذ العلوم السياسية بالجامعة العبرية في القدس، وشغل منصب مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية أثناء الوزارة الأولى لرئيس الوزراء إسحاق رابين.
خاص بالجزيرة




 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد