تبقى وظيفة الخطاب الواعي إدراك ثقافة الذنب والاستغفار، ومعرفة النفس الأمّارة والنفس اللوامة، وإدراك أن الإنسان مجموعة مشاعر داخل المدار البشري الخطّاء والتواب..... |
|
** يروى أن (نابليون) 1769- 1821م -قبل غزوه مصر عام 1798م- سأل عن أوضاعِها الثقافية، فتُرجم له من أدبيّاتها شعرٌ في مناجاة الخليلة التي ما يزالُ حبيبُها ينتظرُها تحت ظل شجرة، فقال: (مَنْ ينتظر لا يتحرك، فلا خوفَ منهم). |
** لا يمكن تصديقُ هذه الطرفة ولو ثبتت إلا في إطار قراءة شاملة للواقع الراكد في أمةٍ أدمنت الخنوع والخضوع، أما في حكايات الهوى والجوى فلا تتجاوز الحكاية استدراجاً مؤقتاً من الرجل لحين الظّفر بالمرأة ثم الانقلاب عليها. |
** لعل المغامر المستعمر الأميركي (بوش) قد قرأ هذه الحكاية فقرر غزو العراق بعدما استمع إلى أغنية (حسين نعمة)، من شعر (خالد الحداد): |
بابك الموصد دوني |
فيه سمّرتُ عيوني |
وعلى عتْبته الخضراء |
تستجدي ظنوني |
** لم يدرك أن النصّ ذو دلالات صوفيّة (حلاجيّة)، ولو أدرك لعزم أكثر؛ (فالدروشة) تخُلق الكسالى، ويطمئن بها الهجوع. |
** مهاذراتٌ لا تخلو من معانٍ ومعطيات قبل أن تقف بنا القصيدة كما الأغنية عند معاني الشوق والتوق، والباب والحارس، والالتهاب واليباب، ويُصدِّق من يعشيه ضوءُ شمعة أن الحياة تأذن بالنهوض لمن (هوى)، وهيهات. |
|
** مرت عشر سنوات على رحيل نزار قباني 1923-1998م، وتزامنت ذكراه مع مرور ستين عاماً على نكبة فلسطين، وكتب (أبو توفيق) بالوردة ثم استبدل بها السكّين، وما نزال نقرؤه هائماً وغائماً، مغنياً للحب كما للحرب، ومشعلا الحنين والأنين -كما قال-، وهكذا هي الحياة تسير بنا فنُعْتم ونَغْتمّ، ونشرق ونورق، ونثق أنه العمر يمر ويفر، وأنها الدنيا يوماً ما ستستقر. |
** هنا تبتدئ القضية التي يواجهها جيل الشباب تحديداً في فرض ثنائية تفكيرية صارمة، فمن أهمّته الأمة لا يجوز له أن ينشغل عنها أو يشتغل بغيرها، ما يجعل الفن -بأشكالِه وموضوعاته- معادلاً سلبياً للوطن، وما يخلق الصدام والانفصام في نفوس الناشئة الذين ينأى بعضُهم عن الواجبات وفي مقدمتها قراءة كتاب الله إذْ فهم أو أُفهم أن جوفه لا يتسع له ما لم يحرم على نفسه سماع المعازف ودخول السينما ورؤية سوبر ستار وستار أكاديمي. |
* وتتكرر حكايةُ الرجل الذي بحث عن توبة يغفرُ بها الله له قتله نفساً معصومة، وإذْ أُقفل الباب أمامه فقد استمزج الجريمة، وكان الضحايا قِلة فأمسوا قبيلة، ويدرك الشباب أن ذنبهم يتعاظم فينأون عن طريق الحسنات الذي يمحو السيئات. |
|
** تلتزم الحديّة الثنائية بمفهوم ال(مع) وال(ضد)، كما في الأفق السياسي الضيِّق الذي فرض علاقة التخاصم، وتجارب فلسطين والعراق ولبنان والسودان وغيرها شاهدة على العبث الحزبي الذي تصطلي بأواره الشعوب المقهورة. |
** صار الرياضيون أكثر وعياً، وبمقدار ما يفرز جدلهم من الشعارات الانفعالية فإنهم يبقون أصدقاء، إلا أن المؤدلجين كما السياسيين لا يرضون إلا أن نحمل ملامحَهم، ونشيد بملاحمهم، ولا نخرج عن خطهم مهما كان راديكالياً، ومهما كانوا دوغمائيين. |
** واجتمعت مناسبتا (العشر) و(الستين)؛ فعاب (الحديُّون) اهتمامنا بشاعر التمرد الذي غاب -عن القراءات الضديّة- وعيُه بالحرية، وإيمانُه بالعدل، وثورتُه على التخلف، ورفضُه الانضمام لقطيع النفاق والارتزاق. |
** نعيش جرح فلسطين مثلما نعايش غربة المبدعين، ولا يحتاج الشاعر إلى أن يكون صلاح الدين، مثلما لا يعيب المناضل أن تكون له تفاصيلُه الصغيرة وزواياه الخفيّة، وللإنسان -بكل مستوياته العمرية والإبداعية- أن يأكل ويصوم، ويصلي وينام، ويذنب ويتوب، وليس لمن شاء الإغلاق إلا باباً يألفهُ أن ينسى الأبواب الأخرى المشرعة على فضاءات العالم الذي يأنس بالصباح، وتشجيه الملاح، ويميل - ولا عيب - مع الرياح. |
** لا تناقض إن كان كذلك؛ فأشجاه همُّ الهزيمة والتأخر والاستلاب، وعاش البوح والنوح، وعايش الشدو والشجو، وتذكر مع نزار أول السطر، وجمال الخصر، وقمة الصدر، وردد معه: |
أيامنا تدور بين الزار والشطرنج والنعاس |
هل نحن (خير أمة) قد (أخرجت للناس)..؟ |
|
إذا خسرنا الحرب لا غرابة، لأننا ندخلها بكل ما يملكه |
الشرقي من مواهب الخطابة، بالعنتريات التي ما قتلت ذبابة |
لأننا ندخلها بمنطق الطبلة والربابة |
** ثم نتأمل: وهل سيقول إمام أو عالم أو داعيةٌ غير ما قاله نزار في تشخيص الداء، لكن كثراً سيقسمون -وقد يحنثون- أنه نفسه من أكبر الأدواء. |
** هكذا نحن حين لا نستطيع اجتياز المسافات الفاصلة بين خطوط الحياة التي تأذن بتجاور الأبيض والأسود، وامتزاج الأخضر بالأصفر. |
|
** يحتاج الخطاب الإنساني -أياً يكن مصدره- إلى قراءةٍ معمقةٍ للذات التي تلتقي فيها عوامل متضادة فيسكنُها المسالم والجزار، والشقي والنقي، والعاطفي والعقلاني، والمتسامح والغرائزي، وقد ينتصر جانب على المدى أو لمدى؛ فتظهر شخصياتُنا التي تُكوِّن ما نراه نحنُ فينا وما يراه الآخرون حولنا، وقد نخلص بشخصيات مزدوجة تلبس الأقنعة لأن الأجواء المحيطة لا تأذن بظهور الذات على حقيقتها. |
** وكثيراً ما يفاجأ العارفون بشخصيات عامة متناقضة تعمل في العلن أمراً تناقضه سراً، وتنصح نهاراً وتحيد ليلاً؛ فتقول ما لا تفعل وتفعل ما لا تقول، والناتج خلل تربوي وثقافي يفتقد النموذج، ويكفيه أن يبدل الأقنعة وفقاً للمتغيرات. |
** وتبقى وظيفة الخطاب الواعي إدراك ثقافة الذنب والاستغفار، ومعرفة النفس الأمّارة والنفس اللوامة، وإدراك أن الإنسان مجموعة مشاعر داخل المدار البشري الخطّاء والتواب. |
** لم يهزمنا نابليون وبوش وأولمرت ونجاد لأننا نغني الفجر، ونرسمُ النهر، ونناجي طيف الحبيب؛ ولن ننتصر حين نئد أصواتنا الداخلية المسكونة بالاعتدال والميل، لكننا نخسر اليوم والغد حين لا نكون ذواتنا الحقيقية. |
|
** تصوروا أن يفتح الستار على المغلق، ونستقبل على الهواء بثاً مباشراً لما نحن عليه داخل بيوتنا وغرفنا المغلقة، ليستوي في ذلك محافظ وليبرالي، وداعية وبِدْعي، ومستقيم ومنحرف، فهل سنجد العلن مثل السر، وهل سيحافظ أناس كثيرون على صورهم الخارجية التي يظهرون بها، ويحاسبون غيرهم عند الإخلال بها، وهل يقود هذا إلى التماس العذر لمن حاد قليلاً عن الدرب؟. |
** ستكون مواجهةُ الذات بالبث المباشر لما لا نريد سوانا أن يراه مانعةً بل قامعة للازدواجية السلوكية التي يتزيّا بها فئام يمارسون في الخفاء ما ينعونه في العلن، كما أنها ستقترب بهم من فهم بشريتهم؛ فيوفرون على أنفسهم وعلى غيرهم مشقة النقد القاسي والحدية السلوكية. |
** ستبقى قيمُ الانتصار هي قيم العدل والصدق والأمانة والوفاء والنزاهة وقول الحق ونصرة المظلوم ونجدة المحتاج وعدم أكل أموال الناس والمال العام؛ فالدين المعاملة، ومن يتصدى لتعليم غيره يبدأ بنفسه، والشكل الخارجي لا يكفي مداراً للحكم. |
** البث المباشر لدواخلنا نحو الخارج فكرة مبدعة مثلما هي مرعبة، ولو أدرك الدعاة والمحتسبون والمصلحَون أنهم مكشوفو السرائر والضمائر لتبدلت معادلات واقتناعات؛ أبرزها أن (كل بني آدم خطّاء وأن خيرِ الخطائين التوابون)، وأن من (كان فينا بلا خطيئة فليرم من شاء بحجر)، وأننا بشر لا صور. |
** الحكايات كثيرة، لكن الفم الممتلئ بالماء يلتزم الصمت ويغلق قلمه، فقد دقت المساحة 1000 كلمة محددة لصاحبكم في أربعاويّاته. |
|
|