ذهب الشيخ أحمد الحملاوي من المحدثين في كتابه (شذا العَرف) إلى أنه يعرف وجود القلب المكاني في كلمة من الكلمات، أو بعبارة أخرى يعرف كون إحدى الكلمتين أصلاً والأخرى فرعاً عنها بواحدٍ من أمور خمسة: |
1) عن طريق صور الاشتقاق وأمثلته، وهي الكلمات التي ترجع كلها إلى أصل واحد مثل الفعل الماضي (نَاءَ) بمعنى بَعُدَ الذي مضارعه (يَنَاءُ)، مع (نَأَى) بمعنى بَعُدَ أيضاً التي مضارعها (ينْأَى) واسم الفاعل منهما (النائي) واسم المفعول منهما (المَنْئِي) عنه واسم الزمان أو المكان منهما (مَنْأَى) والمصدر هو (النَّأْي)، فناء ونأى فعلان ماضيان ثلاثيان مجردان اتفقا في الحروف واختلفا في ترتيبها وهما بمعنى واحد، ومثل هذا يقال في (رَأَى) الذي مضارعه (يَرَى) مع (رَاءَ) الذي مضارعه (يَرَاءُ) ومصدرها (الرَّأْي). |
2) عن طريق التصحيح مع وجود موجب الإعلال في إحدى الكلمتين المتَّفِقتين في اللفظ والمعنى مثل (أيسَ) على وزن (عَفِلَ) مع (يَئِسَ) على وزن (فَعِلَ) فإن الياء المتوسطة في (أَيسَ) متحركة مفتوح، قبلها فحقها أن تقلب ألفاً وتصبح (آسَ)، فلّما وجدنا (أَيسَ) مصححة مع وجود موجب الإعلال فيها أي مع وجود سبب قلب يائها ألفاً وهو تحرك الياء وانفتاح ما قبلها علمنا أن (أَيِسَ) قد صحت لكونها فرعاً عن (يَئِسَ) الذي لا سبب فيه للإعلال، أي هي مقلوب (يَئِسَ) المكاني). |
3) عن طريق ندرة الاستعمال مثل (آرام) جمع (رِئمْ) أي الغزال الصغير أو الظبي الأبيض، فإن ندرة استعمال (آرام) وكثرة استعمال (أَرْآم) دليل على أن (آرَام) النادرة مقلوبة عن (أَرْآم) كثيرة الاستعمال، وجعل الأكثر استعمالاً أصلاً أولى من جعل الأقل الأصل، ووزن (أرآم) الكثير (أفعال) ووزن (آرام) النادرة (أعْفَال). |
4) عن طريق أن يترتّب على عدم إجراء القلب المكاني وجود همزتين في الطرف مثل (جاء) فإن اسم الفاعل منه يكون على وزن (فاعل) أي (جَايِئْ)، وأصل الفعل (جَاءَ) هو (جَيَأَ) فتحركت الياء وفتح ما قبلها فقلبت ألفاً فصارت (جَاءَ)، والقاعدة العامة أنه متى أعل الفعل بقلب عينه التي هي ياء ألفاً أعل اسم الفاعل منه بقلب عينه التي هي ياء أيضاً همزة فأصبح اسم الفاعل (جَائِيْ) على وزن (فاعِلْ) بهمزتين في نهاية الكلمة وذلك مستكره في العربية لثقله فيجب الاحتراز عنه بإجراء القلب المكاني بتقديم اللام وهي الهمزة على العين وهي الياء فتقول (جَائِي) بوزن (فالِعْ) ثم نعله كإعلان الاسم المنقوص (قاضٍ) أي نحذف الياء في الرفع والجرّ فقط فيقال (جَاءٍ) على وزن (فالٍ)، أما في حالة النصب فإن (جَائِياً) تكون على وزن (فاَلِعاً)، أما (قاضياً) بالنصب فإنها على وزن (فاعِلاً). |
5) عن طريق أن يترتب على عدم القلب المكاني في الكلمة منع صرفها بدون وجود علّة من علل المنع منه المعروفة، فيجري القلب المكاني في الكلمة للحيلولة دون ذلك، كما في (أشياء) فقد منعت هذه الكلمة من الصّرف بلا خوف، قال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}، ونحن إذا لم نقل بقلبها قلباً مكانياً لكانت على وزن (أفعال) وللزم منع (أفعال) من الصرف بدون مقتضى إذ ليس (أفعال) من أوزان ألف التأنيث المحدودة لكي يمنع من الصرف لذلك، وقد ورد (أفعال) مصروفاً مثل أسماء، قال تعالى: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَاؤُكُم}، و(أسماء) ليس فيها قلب مكاني لأنها على وزن (أفعال) وهي مصروفة لمجيئها على هذا الوزن، أما (أشياء) فإنها منعت من الصرف لحدوث قلب مكاني فيها فأصلها (شَيْئَاءْ) على وزن (فعْلاء) كحمراء وصحراء، وهذا الوزن من أوزان ألف التأنيث المحدودة الممنوعة من الصرف، وقد قدمت الهمزة الأولى في (شَيْئَاءَ) التي هي لام الكلمة ووضعت قبل فاء الكلمة وهي الشين فصارت (أشياء) على وزن (لَفْعَاء)، فَمُنِعَ (أشياء) من الصرف نظراً إلى الأصل وهو (شَيْئَاء) على وزن (فَعْلاء) وهذا الوزن من موازين ألف التأنيث المحدودة المانعة من الصرف. |
و(أشياء) ليست جمعاً - على الأرجح - وإنما هي اسم جمع مثل اسم الجمع (طَرْفاء)، واسم الجمع هو ما دل على معنى الجمع غير أنه لا واحد له من لفظه (غالباً) نحو جيش ومفرده جندي ونساء ومفردها امرأة، وقد يكون لاسم الجمع مفرد من لفظه مثل أشياء وطَرْفاء وصَحْب ورَكْب فإنّ مفرد ذاتها هي شيء وطَرَفَة (بفتح الرّاء وهو اسم الشاعر الجاهلي المشهور طَرَفة بن العبد) وصاحب وراكب، ولا تعدّ هذه الألفاظ الأربعة من جموع التكسير عند الجمهور لأنّها جميعاً ليست على إحدى صيغ جموع التكسير القياسية المعروفة. |
وتعدّ الهمزة الأخيرة في (أشياء) زائدة، لذلك، على (أَشْيَاوات) كما جُمعتْ صحراء على صحراوات وحمراء على حمراوات، وقد دخل القلب المكاني في (شَيْئَاء) كراهة اجتماع همزتين بينهما حاجز غير حصين وهو الألف وذلك ثقيل، وهذا هو رأي الخليل وتلميذه سيبويه، وهناك آراء أخرى مرجوحة في (أشياء) وخلافات بين العلماء - لم نتحدث عنها - نظمها بعضهم في قوله: |
في وزن أشياء بين القول أقوال |
قال الكسائيُّ إنّ الوزن أَفْعَال |
وقال يحيى بحذف اللام فهي إذاً |
أفْعَاءُ وزناً وفي القولين إِشْكال |
وسيبويه يقول القلبُ صَيّرَها |
لَفْعَاء فافهم فذا تحصيل ما قالوا |
ورجّح عبدالله بن محمد الحسيني المعروف (بنُقْرة كار) المتوفى في 776هـ وهو واحد من مشاهير علماء الصرف في شرحه المشهور على (شافية) ابن الحاجب رأي سيبويه وعدّه أصحّ المذاهب. |
وأكَّد رضي الدين الاستراباذي المتوفى في 686هـ في شرحه على شافية ابن الحاجب إمكان تداخل الأمور الخمسة التي يستدل بها على وجود قلب مكاني في كلمة من الكلمات وذلك باجتماع واحد منها مع الآخر، كما اجتمع طريق التصحيح على الرغم من وجود موجب الإعلال مع طريق صور الاشتقاق وأمثله في (أيس ويئس)، وكما اجتمع طريق ندرة الاستعمال وكثرته مع طريق صور الاشتقاق وأمثلته (آرام وآراء)، مخالفاً بذلك ابن الحاجب المتوفى في 646هـ الذي ذهب في (شافيته) إلى التفريق بين هذه الطّرق وإلى القول باستقلال كلّ منها. |
وقد أنكر شطر من علماء الصرف القلب المكاني في الكلمات برمته، وذهبوا إلى أن ما يزعم وقوع قلب مكاني فيه من هذه الكلمات إنما هو في الحقيقة لغات سمعت من العرب الذين يحتج بهم ليس غير، وقصروا الأمر كله على السماع، وعلى هذا تكون الكلمة عند هؤلاء قبل ما سمي بالقلب المكاني وبعده فصيحة لأنها وردت في استعمالات العرب بالوجهين وبمعنى واحد مثل (نأى ومقلوبها ناء) و(وجه ومقلوبها جاه)، (وقاس) الخليل وغيره القلب المكاني في كلمات متعددة ولم يقصروه على السماع، وعندي أن الإقرار بالقلب المكاني أعمق وأعلم وأن إنكاره أسهل وأسلم. |
بقي لي تعليق موجز هو أن هذا البحث ونحوه يثبت أن اللغة العربية أرقى من أصحابها العرب، وهذه هي مفارقة (الحاضر) على وجه الخصوص التي نأمل أن لا تنسحب على المستقبل. |
* أستاذ سابق في الجامعة |
|