أمسك بمعصم مريضه برفق. وأخذ يعد الثواني. أو أنه كان يتظاهر بذلك. سرق ثانيتين من نبضات مريضه، وأخذ يستنشق رائحة عطر المتدربة الجديدة إلى جواره. أحس برغبة طاغية تسيطر عليه. تذكر أنه لم ير زوجته منذ عشرين يوماً. فقد سافرت لزيارة أمها المريضة لتكون بقربها في أيامها الأخيرة. الرغبة تسيطر عليه وتربكه. تلاقت عيناه بعيني المريض المرهقة، فهرب من نظراته.
التفت إلى من حوله. كانوا ثلاثة متدربين. فتاتان وشاب. إحساس بالفتور يغمره. تسائل:
لماذا لم يذهب معها؟
أحس أنه بالمكان الخطأ.
بعد انتهاء نوبته وفي طريقه للمنزل انتابته كآبة حادة. الوحشة التي تغطي كل شيء في البيت بعدها تؤلمه. اشتاق لها حد الوجع.
في البداية اعتقد أنه سيأنس لحياة العزوبية مرة أخرى. يخجل كلما تذكر شعوره بالحرية وهو يودعها في صالة المطار. قالت له قبل أن تذهب وهي تنظر في عينيه:
ستشتاق لي..؟
قال:
كثيراً.
ابتسمت له ابتسامة من لم تصدقه. قبلته ومضت.
الأيام الأولى كانت جميلة، أو هكذا ظنها. السهر مع الأصدقاء لساعات الصباح الأولى. مشاهدة الكثير من الأفلام، رجوع داء الفوضى الذي كان يسكن حياته قبل أن تدخل حياته. ثمة وخز يشعر به كلما تذكر نظرتها الأخيرة له. بدا له أنها تخبئ الكثير. يعترف الآن أمام نفسه أنه ماكان يعتقد أنه سيشتاقها لهذا الحد.
كم هي طاغية الحضور حتى في غيابها!
ليس ثمة ركن إلا ولها فيه بصمة، ثلاث سنوات من الضجيج الجميل تشهد عليه كل زوايا البيت.
قرأ كثيراً هذا المساء، وفي منتصف الليل فكر بالخروج والتنزه قليلاً، فليس من عادته النوم في مثل هذا الوقت، وفترة عمله في الغد ستبدأ مساءً.
وهو في سيارته حاول الاتصال بزوجته أكثر من مرة ولكن الجهاز مغلق! شعر ببعض الحنق عليها..
أخذ يفكر في أخذ إجازة والسفر إلى هناك.. تذكر رئيس القسم والذي لن يكون انتزاع موافقته على الإجازة هيناً. فمعظم الزملاء يتمتعون بإجازاتهم. والمستشفى في أمس الحاجة لخدماته هذه الفترة.
لا يعلم - فيما بعد - كيف انهالت عليه الأفكار، بشكل متسارع، تذكر رائحة عطر الطبيبة المتدربة! وشعوره بالنشوة! تذكر نظرات المريض المرهقة، وزوايا شقته، وابتسامة زوجته وهي تودعه في المطار.
ونتف من الكتاب الذي قرأه قبل قليل، كان كل شيء جميلاً جداً، اختلاط أنوار السيارات بعضها ببعض، وتشكيلها في النهاية ألوانا قزحية رائعة، تعطي وجه زوجته وهي تنظر إليه ضاحكة مغزى من نوع خاص!
بدا له أن هذه الليلة تحمل معاني استثنائية، وجوه زملائه الحزينة، والخفة اللامتناهية التي يشعر بها، وشعور الرضى عن الحياة الذي يغمره، والغيوم التي بدا له كأنه يطير إلى جوارها.. ياللسعادة! إنه في وطنه؟ بدون إذن، من رئيسه ولاجدال مع زملائه، كل شيء بدا بفكرة بسيطة للتنزه.
كل شيء مناسب، ومتقن، وفي موضعه تماماً، فقط يشعر ببعض الضيق من رائحة التابوت من وقت لآخر.
عقيل الفهيدي