يا لها من أحلام جميلة، وصور بهية، ووعود وردية، شنفت لها الآذان، وطرب لها الوجدان، أتدرون من هي؟ إنها صورة الشرق الأوسط الجديد، المفعمة بالأحلام، أو الشرق الأوسط التائه اللاهب وراء سراب الوعود والآمال، إنه الشرق الذي سوف تظلله العدالة، ويسوده السلام والوئام، شرق (ديموقراطي) تتداول السلطة فيه بين الأكفياء من أبنائه بكل الود والتقدير والاحترام، شرق حر، شرق هادئ هانئ، شرق كثيرة خيراته، شرق قليلة - بل معدومة - ويلاته، شرق الأعراض فيه مصونة، والدماء محقونة، والنفوس محترمة، والعقول حرة، والأموال محفوظة، شرق تشرق شمسه كل يوم على جديد، وبجديد تتجدد معه الآمال بغد أكثر إشراقاً وسعادة.
هكذا رسمت صورة الشرق الأوسط، صورة شكلت معالمها ب(مكاييج) رخيصة مزيفة، شكلها نيابة عن المعني بها مستبد ظالم، ويا لها من صورة جسدت كل معاني الكذب والخداع، صورة سال لها لعاب البعض، وداعب سرابها خيال عدد من ذوي العقول الحول، وانطلى خبثها على ذوي الرؤى التائهة، لقد ثبت أنها صورة كريهة سرعان ما تكشف عورها، وتناقضها مع معسول الكلام الذي جاهد في تسويقها، باعتبارها الأنفع والأصلح للناس في الشرق الأوسط.
لكن يأبى الله إلا أن تظهر الحقائق جلية، فإذا هي زبد سرعان ما تلاشى واختفى، وغدا هباء تذروه الرياح، هذه معالم حال الشرق الأوسط الموعود، إنها حال مأساوية، حال النفوس فيه مروعة، والأموال مهدرة، والأعراض منتهكة، والدماء مسفوكة رخيصة، والعقول ذليلة مستعبدة، إنه شرق ساد فيه الاستبداد والاستعباد والاستبعاد.
والدلائل والشواهد على حالة البؤس هذه كثيرة، تواترت في أكثر من مكان وزمان، فدمعت من هولها العيون، وتفطرت من آلامها القلوب، ومع هذا مازال البعض يهرول وراء سراب كاذب من الوعود والآمال، إنها حال لم تعد ترى أو تسمع، حال ينطبق عليها قول الشاعر:
لقد أسمعت لو ناديت حياً
ولكن لا حياة لمن تنادي
ومن أشد الشواهد إيلاماً وقسوة - وهي كثيرة -، ما أوردته قناة (العربية) في إحدى حلقات برنامجها (صناعة الموت) وكان موضوع الحلقة (من يحكم السجون الأمريكية في العراق) ضيف الحلقة شاب عراقي، تخرج حديثا في مجال المحاماة، وكان فرحاً بحصوله على مؤهله الذي تمس الحاجة إليه في بلاده التي تئن تحت وطأة الظلم والقهر والعدوان، من بغاة وظلمة استغلوا حالة الفوضى ليعثوا ويثأروا ويفسدوا دون خشية من سلطة، أو خوف من معاد.
يذكر هذا المحامي الشاب أنه اقتيد من الموصل إلى بغداد، وتحديداً إلى سجن قريب من مطار بغداد، ولأنه مذنب خطير - حسب زعمهم -، اقتيد إلى سجن (بوكا) وهو سجن أمريكي، يتكون من وحدات سكنية يصل عددها إلى حوالي ثلاثين وحدة، وفي مساء يوم عيد الفطر الماضي، وبينما هو يتجول بين وحدات السجن، إذا بأشخاص ملثمين يهجمون عليه من الخلف، ويوقعونه أرضاً، وأخذوا يتشاورون في البدء في تنفيذ مهمتهم التي يقشعر من هولها البدن، فأخرج أحدهم أداة قلع بها عينيه، وطلب آخر من زميله أن يفتح فم الضحية ليقطع لسانه، وعلى الرغم من فظاعة الحدث الأول وشدته وآلامه، إلا أن المغدور قاوم، ولم تجد مقاومته، حيث عمد أحدهم إلى ضرب فكه، ثم أخرج لسان المغدور فقطعه، ولم يكتفوا بذلك، بل زادوا عليه بكسر قدمه، ثم لاذوا بالفرار، وتركوا الرجل يصارع آلامه، والأمريكان على بعد حوالي ثلاثمائة متر منه.
هذه الحالة المؤلمة - وغيرها كثير - تكفي لبيان حقيقة الشرق الأوسط الجديد، وغده الموعود بالآلام والأحزان، والعاقل يتعظ بهذه الحوادث والأحداث وعواقبها، ولا يسلم ظهره لجلاد يسومه سوء العذاب، فهؤلاء الجلادون لا مواثيق تضبطهم، يقولون بأفواهم كلاماً لينا معسولا، لكن قلوبهم تأبى إلا إذلال المسلمين وقهرهم، فهم ناقضون للعهود والمواثيق بكل بجاحة وصلف، تدبروا قول الله تعالى {كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ} الآية 8 سورة التوبة. ففي هذه الآية بيان صريح لحقيقة هؤلاء القوم، فهل من متعظ؟