الفسيفساء الطائفية والمذهبية في لبنان كانت دوماً تمنع تكوين دولة مركزية قوية ومهيمنة قادرة على التحكم بجميع مؤسسات المجتمع والسيطرة عليها، بالطبع هذه الحالة التاريخية كان لها بُعدها الإيجابي بحيث جعلت من لبنان مفتاحاً للبيت العربي على العالم الخارجي، ومركزاً حراً يتسم بالمرونة والقدرة على تقبل الأفكار والأيديولوجيات والصراعات عبر سقوف شاسعة للحرية.
ولكن هذا الجانب الإيجابي المتعلق بغياب طغيان الحكومة المركزية - كما هو الحال في بقية الدول العربية - كان له جانبه المظلم أيضاً؛ فذلك التخلخل المركزي كان يسمح دوماً ونتيجة لصراعات إقليمية ودولية بنشوء جماعة مسلحة في قلب دولة لبنان،جماعة خارجة على سلطتها وشرعيتها، متذرعة بشتى الأيديولوجيات والشعارات والمبررات التي تسوغ التواجد المسلح الخارج عن السلطة الشرعية للدولة.
فمثلاً، المهاجرون بعد نكبة فلسطين، عبر سنوات المنفى الطويلة في لبنان، استطاعوا أن يرسخوا وجوداً عسكرياً كبيراً في المخيمات، تحت حماية ومظلة حالة جيشان شعبي ووطني من التعاطف والتآزر مع قضيتهم؛ الأمر الذي لم يستطع الفلسطينيون أنفسهم القيام به في مخيمات سوريا مثلاً أو في الأردن، ونكبة أيلول الأسود 1970 أكبر شاهد تاريخي على ذلك.
لكن في لبنان اضطرت الأطراف المتصارعة أن تنخرط في حرب أهلية مريرة دامت سنوات طوالاً؛ بهدف يحلم (باتفاقية الطائف) وشروط تعزيز شرعية الدولة، ودعم مؤسساتها العسكرية والمدنية، وتنظيم التواجد العسكري الفلسطيني المسلح في لبنان.
اليوم يدخل لبنان إلى نفس المنعطف ونفس الكمين التاريخي المتواتر، وهو عاجز عن الاستفادة من دروسه الماضية في ظل غياب حكومة مركزية قوية، فحزب الله وهو المليشيا التي تزعق وتروج بالشعارات القومية والبطولة والتحرير والمواجهة مع إسرائيل، بينما هو على أرض الواقع ليس إلا فيلقا من الحرس الجمهوري التابع (لطهران)، استغل الضعف الذي تعاني منه الحكومة المنتخبة وأكثرية 14 مارس، وسعى إلى تنفيذ أجندته الخاصة في لبنان (ليس بالتحديد أجندته بقدر ما هي أجندة القوى الإقليمية للسيطرة).
بعد حرب 2006 على لبنان والنصر الإلهي المؤزر رفض حزب الله الانصياع إلى شرعية الدولة، والانخراط في مشروعها، وتسليم أسلحة حزب الله إلى الجيش اللبناني ومن ثم الانخراط في العملية الديمقراطية وتداول السلطة، وكان طوال الوقت يعطي الضمان تلو الضمان على أن أسلحة جيش الله مخصصة لإسرائيل ومواجهة إسرائيل فقط، وأن الدماء اللبنانية هي خط أحمر بالنسبة له.
لكن اليوم بعد احتلال بيروت والدماء اللبنانية المهدرة بأسلحة حزب الله، والمباني التي أحرقت بنيران حزب الله، والمواطنين الذي هجروا وروعوا من قبل مليشيا حزب الله، ما السقف الذي سيحتمي تحته (إعلامياً على الأقل) حزب الله وجوقته من المطبلين والمزمرين ومرتزقة المقاومة؟.