عُرف اليابانيون بأنهم شعب مقلِّد بدرجة مدهشة، فهم يستطيعون تقليد ما يبرونه أمامهم بدقَّة معجزة، ولكنهم بعد ذلك سرعان ما يتركون بصمتهم وإضافاتهم البديعة على الصناعات التي يقلدونها بحيث تنافس إن لم تتفوق على الصناعة الأصلية.
في العالم العربي يأخذ التقليد منحى آخر تماماً لا علاقة له البتة بالإجادة والإتقان، فمثلاً لو أخذنا الإعلام الفضائي أنموذجاً لهذا التقليد لوجدنا مفارقات غريبة وعجيبة.
كثيراً ما تابع المشاهد العربي ما يعرف ببرامج الواقع بنسختيها الأصلية والمقلدة، وشتان ما بين العملين، فكفة النجاح والإجادة تميل فوراً إلى العمل الأجنبي بنسخته الأصلية، أما البرنامج حين يقدم مقلَّداً في نسخته العربية فإن النتيجة تشير بكثير من الإخفاق وعدم القدرة حتى على إجادة التقليد.. ترى ما تفسير ذلك؟!
يرجع البعض أسباب ذلك إلى اختلاف الثقافات التي تنعكس بالتالي على أسلوب التفكير في تنفيذ وتقديم هذه البرامج.. ففي البلاد الأجنبية المتقدمة هناك معايير وضوابط تُحترم من الجميع ولا تتنازل المؤسسات أو الأفراد عن الالتزام بها، وهي في ذلك تستند إلى ثقافة مجتمعية تعلي من قيمة الإجادة والكفاءة والقدرة على الإبداع فضلاً عن احترام القيم الإنسانية العامة من حب للجمال والخير والصدق.. إلخ.
في الوطن العربي الوضع يكاد أن يكون على العكس من هذا تماماً إلا من استثناءات قليلة تبرز هنا وهناك.
فقيم الفهلوة والاستسهال وعدم الجودة وإنتاج الأعمال بأي شكل بصرف النظر عن الاهتمام بمستوى الجودة والكفاءة هي القيم السائدة بكل أسف.
وإذا ما انتقلنا من تقليد بعض الفضائيات العربية للبرامج العالمية الناضجة ستجد تقليداً آخر تمارسه هذه الفضائيات في حق بعضها البعض، فما أن تبدأ إحدى هذه الفضائيات بالخروج بشكل فني جديد ومبتكر إلا وتجد بقية المحطات الأخرى وهي تسارع إلى تقليدها دون أي حياء فضلاً عن احترام الحقوق الفكرية والإبداعية لأعمال الآخرين، بشكل يوحي بأن العرب أمة عاجزة عن التفكير والإبداع.
وإذا ما تركنا المؤسسات الإعلامية العربية وهي تقلد بعضها بعضاً واتجهنا إلى الأفراد الذين يصنعون هذا الإبداع لوجدنا الحال يتكرر بشكل مأساوي، فعلى سبيل المثال ما أن يبرز أحد مقدمي البرامج بشكل جماهيري ويُعرف بأسلوبه المتميز به وينجح في ذلك حتى تجد بقية المقدمين المنافسين له وهم يحاولون تقليده بشكل كامل في الأسلوب والشكل ونبرات الصوت وطريقة الأداء بشكل يدعو للاستغراب. وقس على هذا المثال بقية الفنون الأخرى.
يُروى عن الموسيقار الراحل محمد عبدالوهاب أنه أراد وهو في بداياته الفنية أن يجامل أمير الشعراء أحمد شوقي، وهو أستاذه ومعلمه وصاحب الفضل عليه في حياته.. أراد محمد عبدالوهاب أن يؤدي إحدى قصائد شوقي وفقاً لما يتوقع أنه يرضي ذوق أستاذه شوقي، فما كان من شوقي إلا أن يوبخ محمد عبدالوهاب على تقليده للأساليب القديمة.
وفي النهاية عاتبه قائلاً له: (وأنت مالك بذوقي وبما يرضيني..).. ثم وجه نصيحة لعبدالوهاب قائلاً له:
عليك أن تكوّن نفسك فقط، واعمل على أن تعبر عن عصرك الذي تعيشه إذا أردت أن تكون ناجحاً.
ويبدو أن البعض منا بحاجة إلى وقفة مع الذات يحاسبونها ويراجعونها بشكل موضوعي وصحيح.. فالإنسان العربي لا ينقصه لا الذكاء ولا القدرة على الإبداع، فقط هو بحاجة إلى الثقة بالنفس أولاً وبعد ذلك يحتاح إلى الدعم والتشجيع والمؤازرة من أصحاب الاختصاص حتى نرى هذه العقول وهي تفكر وتبدع بالشكل الذي يخدم الأمة ويرقى بها إلى المستوى المأمول بين أمم الأرض الأخرى.
* مستشار إعلامي