كل ما أبغي قوله - في هذا المقال المكثف - هو التأكيد على أننا كمجتمعات عربية في أشد الحاجة إلى تشكيل نسق قيمي يتلاءم أو يستجيب لنتائج استشرافنا لمستقبلنا، كما يهمني التشديد على أن أي تأخر أو تلكؤ في هذا الأمر سيترتب عليه آثار خطيرة قد لا نستطيع السيطرة عليها، ولعلي أجلي هذه المسألة من خلال المحاور التالية:
(2)
نشهد في منطقتنا أحداثا كبيرة ومثيرة، ذات طبيعة دراماتيكية، ويشارك في صناعتها واستمراريتها عناصر متعددة في شبكة معقدة من العلاقات والأدوار والتقاطعات في الرؤى والمصالح والقيم... فالتشرذم الفلسطيني والاعتداءات الصهيونية السافرة والحصار المطبق على قطاع غزة والضفة الغربية، والأوضاع المأساوية والتردي الشامل في العراق، والأحداث المتفجرة والمخيفة في لبنان، وإذكاء البعد الإثني والطائفي والمذهبي والقبلي في العديد من الدول العربية، والتحركات الإيرانية في محيطها الفارسي والعربي وما يرتبط بها من بسط نفوذها وتأثيرها، والارتفاع الجنوني لأسعار النفط في (سلوك سعري) يسقط التنبؤ الاقتصادي في الحيرة والارتباك وُيدخل (المشكل السياسي) في (جوف الاقتصاد)، وجلي بأن السياسة حين تتدخل بهذه الطريقة في المسار الاقتصادي فإن هذا يعني أن بعض القوى تسعى لخدمة أهدافها وفق أطر أيديولوجية ورؤى تغييرية وأبعاد مصالحية لا تخفى على المتتبع للأحداث والمراقب لنمط سلوكها... ومثل ذلك الارتفاع غير المنطقي لأسعار الطاقة ينذر بحدوث اختلالات كبيرة في الهيكل الاقتصادي (المعولم)، وبدهي أن ذلك له آثاره الخطيرة في كافة الميادين، الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والأمنية؛ لاسيما في هذه المنطقة التي نعيش فيها... هذه المنطقة التي تتحاشد حولها عوامل الجذب والاستقطاب للاعتبارات الاقتصادية والدينية.
(3)
يظن البعض بأن النسق القيمي في المجتمعات الإنسانية ثابت أو يفترض أن يكون ثابتاً، بغض النظر عن طبيعة المرحلة التي تشهدها تلك المجتمعات، وهذا أمر غير دقيق البتة، فالنسق القيمي مهما كانت درجة تماسكه إلا أنه معرض للتغير سواء في مفرداته، حيث يمكننا تصور دخول مفردات جديدة أو مغادرة مفردات أخرى، وربما يكون التغير في درجة كثافة هذه المفردة أو تلك، وبالتالي تغير نوعية وحجم تأثيرها على الاتجاهات لدى شرائح اجتماعية محددة وكذلك التأثير على سلوكهم...
إذن نحن بحاجة إلى أمرين: أن نستشرف مستقبلنا وفق منهجية علمية دقيقة في ضوء رؤية حضارية إيجابية؛ وأن نشخص ونستوعب النسق القيمي لدينا ونتأكد من وجود التناغم بين النسق القيمي والمستقبل المتوقع، إذ يلزمنا إحداث أكبر قدر ممكن من المواءمة بينهما... والضابط في هذه المسألة هو توفير باقة من القيم بالنوعية والحجم المطلوبين على نحو يجعل المجتمع قادراً على التعامل مع الظروف والأحداث المستقبلية، بما يعظم الانتفاع من الفرص الممكنة ويقلل من المخاطر أو التهديدات المحتملة، وهذا نوع من الرشد لا يسعنا تجاوزه أو التغافل عنه!
وإلى حين الإقدام على تطبيق ما سبق، يمكنني تقديم بعض النتائج - المبدئية - التي خلصت إليها في هذا السياق، والتي تنبثق من سؤال محوري مفاده: على افتراض التسليم أو التفهم بمعنى أصح لمؤشرات المستقبل في المنطقة التي سقناها آنفاً، ما هي أبرز القيم التي يتوجب علينا العناية بها؟
ثمة قيمتان محوريتان أعتقد بأنه يتعين علينا ترسيخهما، فمؤشرات المستقبل تؤكد على ضرورة تواجدها بشكل مكثف في خارطتنا القيمية، فالأولى قيمة عقلية - فكرية، والأخرى قيمة وجدانية - نفسية، وهما قيمتان متداخلتان وليستا منفصلتين، ولابد من إعادة التشديد على أن تأخرنا في تكريس تلك القيمتين سيجعلنا - كمجتمعات عربية - نتحمل فواتير كبيرة، قد نعجز عن الوفاء بها. وفيما يلي أستعرض هاتين القيمتين بشكل مختصر:
(4)
القيمة الأولى: العقلانية
المستقبل بتقلباته وأحداثه المحتملة يستلزم أن يكون الإنسان العربي متوفراً على أكبر قدر ممكن من العقلانية والرشد في تفكيره، والتأني في تحليله وتقليبه للأمور، وموازنة البدائل الممكنة، والحكم على الأشخاص والجماعات والمؤسسات، وتقييم الأعمال والنتائج والآثار، والعقلانية المنشودة ستفلح في إبعادنا عن: (التفكير الاختزالي) ذي النزعة التجزيئية، و(التفكير الرغبوي) ذي الطبيعة الهروبية، و(التفكير الخطي) ذي الاتجاه الجامد، و(التفكير المقولب) ذي النتائج المعلبة، و(التفكير الانقسامي) الذي يتمرد على أطر الوحدة الوطنية - القومية - الحضارية... غياب العقلانية له مخاطر كبيرة على نسيجنا الاجتماعي والسياسي والأمني، فهل ننشط في تلمس الثقوب في عقلانيتنا بكل شفافية وجراءة، سواء أكانت ثقوبا في مناهجنا التعليمية أو فلسفتنا التربوية أو برامجنا الإعلامية!
(5)
القيمة الثانية: التسامح
مستقبل المجتمعات العربية يؤكد على أهمية التلبس بالتسامح مع القريب والبعيد، لا سيما في الجوانب الدينية؛ وذلك في دائرة الثوابت المقطوع بها، فالتسامح سمة سوف تجنبنا الدخول في معترك الخلاف والتناحر، أي أن غياب أو ضعف التسامح قد يفضي إلى جر المجتمع إلى ويلات الفرقة والشتات وانخرام مقومات الوحدة والتماسك، وهذا الجانب من هذه القيمة يشدد على أهمية الدور الذي يجب أن يضطلع به العلماء الشرعيون والفقهاء والوعاظ والمربون، فنحن نحتاج إلى (خطاب إسلامي) ناضج؛ بل (تربية إسلامية) متكاملة تؤمن بنهج التسامح وتبشر به وتحافظ عليه، ذلك التسامح الذي يتقاطع مع العقلانية؛ ليصنع لنا نفوسا تتسامح مع الآخر، وعقولا تتفهم الاختلاف وتتجاوز (ضيق الفرقة) إلى (رحابة الوحدة)، وتحقيق المصالح الكبرى في ضوء ثوابتنا الدينية والسياسية والحضارية.
(6)
نقول ما سبق مع ضرورة الإشارة إلى وجود أنساق فكرية في مجتمعاتنا العربية تحارب العقلانية وتجافي التسامح لأسباب أيديولوجية - دينية، فتلك الأنساق الفكرية تستخدم - بدهاء - (الصور الذهنية)؛ حيث تُظهر من يتحدث عن العقلانية بصورة (المتفلت) على الدين والشرع، وتصور من يبشر بالتسامح على أنه (مستخذ) للاستكبار والظلم... وأنا لا أزال أتذكر ذلك الشاب (المتدين) الذي قابلته قبل أسابيع وتحدثت معه عن ضرورة إعمال العقل في هذه الحياة في معرض نقاشنا حول كيفية الحكم على الناس والأعمال والأحداث فقال لي: لا... لا يصلح أن ُنعمل عقولنا... تكفينا النصوص الشرعية... تخيلوا نوع وحجم الخطر الذي يمكن أن يترتب على شيوع هذا النمط من التفكير اللاعقلاني والنفوس غير المتسامحة لدى شبابنا، حيث تتحول عقولهم إلى (فراغ) يمكن أن يملأ ب(ديناميت) شديد الانفجار بأيدي المتشددين والمتطرفين والتكفيريين والمتورطين في العنف...
هاتان القيمتان المتداخلتان، المتضافرتان... نحن بأمس الحاجة إلى تكريسهما في هذا الوقت الحرج وفي هذا المكان الحرج، ولنعد ذلك التكريس لهما من (الأفعال الحرجة) لما نستشرفه من (أحداث حرجة)... لنبدأ دون إبطاء بعملية المراجعة والمكاشفة والتقويم والتعزيز والتصحيح، في ظل التغذية الدائمة لإيماننا المطلق بالله تعالى، وكمال حكمته وعدله ورحمته.
beraidi2@yahoo.com