وحين استدار فلك النقد واستقر في رحاب المتلقي متمرداً على سلطتي الكاتب والنص، تداعت له سائر المعارف وتشعبت النظريات، وانبعثت المصطلحات من مراقدها، لتمكين المتلقي من استكمال عدته، وفرض سلطانه،
وما إن سُخِّرت له المناهج والآليات، حتى أصبح سيد المواقف كلِّها، يمتلك ناصية النص وكأنه المنتج له، والمعبر من خلاله، فلا معقب لأمره حين يريد تحميل النص ما يهواه و(نظرية التلقي) تحقيق لسلطان الذات المتلقية، فهي التي تفرض حقه المطلق في تقويل النص ما قال وما لم يقل.
وإذا كانت (نظرية المعرفة) سمة للعلماء والملل والنحل، قبل أن تكون آلية نقدٍ أدبي فإنها أتت المتلقي طائعة، لتكون بعض آلياته متحكمة في مصائر النص مغلقاً كان أو مفتوحاً أو جمالياً.
وإذ تكون للنص بيئة منتجة تتسعُ حتى تغطي الوهاد والنجاد والمعاني والمباني والمحسوس والمعنوي وسائر المكونات، وتضيقُ حتى تكمن في جوانح المنتج ومكتسباته الثقافية، وله ذات تجسِّدها اللغة ويكسوها الشكل ويَحُدُّها اللفظ والدلالة، فإن له متلقياً يتفاعلُ معه ويفعِّله، فيمضي معه أو يمضي به، حتى لا تكون له علائق لا في المنتج ولا في النص، ولا في شيء آخر سوى المتلقي، الذي يمنحه الهوية والدلالة وكأنه وعاء فارغ.
وتجسيد سلطة القارئ استدعت قضايا كثيرة، وحفزت المنظرين إلى تحرير مشروعيتها، وحقها، في إعادة الإنتاج، والانعتاق من الاستهلاك والقبول المطلق والخنوع لإرادة المنتج.
ولأن محور الحديث عن سلطة المتلقي تدور حول:
- طريقة الاستقبال.
- مستويات التأويل.
والاستقبال والتأويل يستنبطان منهجاً وآلية. أما المنهج فقد تجلى في دراسة (بول ريكور) (صراع التأويلات دراسات هيرمينوطيقية) وأما الآلية فتتجلى في عدد من الدراسات عن (التفكيكية) بحيث يصعب حصرها واستقبال النص يختلف من عصر إلى عصر، وللتراث النقدي منهجه الاستقبالي كما يصوره د. محمد المبارك في كتابه (استقبال النص عند العرب).
على أن حق القارئ لم يكن من عنديات النقد الأدبي، وإنما كان معروفاً ومتداولاً من قبل أن يكون الناقد شيئاً مذكوراً، والراصد لهذا الحق يقف على دراسات متعددة وشاملة ومعمقة، تناولت نظريات المعرفة عند المذاهب والملل والنحل، وعند الطوائف والأفراد، كما تناولت التأويل والاستقبال والتلقي من حيث هي نظريات غير منتمية، وإن كان ثمة استقلالية في التلقي وإغراق في التأويل، فإنه يتجلى بوضوح لدى (الصوفية) و(الشيعة) وإذا قُبل التأويل والتفكيك فإنَّه قبولٌ مشروط بألا يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه، وانتقال مركز الكون النقدي إلى المتلقي جعله يوغل في الانقطاع والعبث بالدلالة، والشعراء الأوائل يدركون هذا الحق، ولهذا نجد أن (أبا الطيب المتنبي) حين يُسْأل عن مشكل شعره، يحيل إلى (ابن جني) لعلمه أنه الأدرى بدخائله حتى لقد قال: (اذهبوا إلى هذا الشيخ الأعور فإنه أعلم مني بشعري، حتى أنه ليقوّلني ما لم أقل.. ومع براعة ابن جني فإن النقاد لم يركنوا إليه، ولم يوافقوه، يقول الدكتور (صفاء خلوصي) وهو أحد محققي (الفَسْر): (ولقد صُنِّفت كتبٌ عديدةٌ في الرد على كتابه (الفَسْر)) وقد ذكر منها ثلاثة كتب من بينها كتاب (قَشْر الفَسْر) الذي حققه أستاذنا الدكتور (عبدالعزيز بن ناصر المانع) وطبعه (مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية). وما نود الإشارة إليه أن حرية القارئ في توجيه الدلالة ليست مطلقة، وإن يَسَّرت له بعض المصطلحات ذلك كمصطلح (التفكيكية) و(النص المفتوح) و(التأويل). ومجمل نظريات التلقي، وإغراءات بعض المنظرين أمثال (أمبرتو إيكو) في كتابه (الأثر المفتوح) و(رولاك بارت) الذي يسوِّي بين المبدع والمتلقي حتى ليقول ب(كتابةٍ قارئةٍ) و(قراءةٍ كاتبةٍ) ويربط قيمة النص بما يتيحه للمتلقي من كتابته للمرة الثانية، ولقد بلغ تمكين المتلقي من رقاب النصوص أن جُعلت القراءة عملية إسقاط، يقول (محمد عزام): (يُدَمِّر الوجود المستقل للنص من أجل أن يبني على أشلائه ما يريد القارئُ بناءه من أفكار) ولست معه فيما ذهب إليه من أن هذا النوع من القراءة استعادة للانطباعية والذوقية، إذ إن ذلك التصرف متعلق بالدلالة لا بالمشاعر، وإن كان (أمبرتو إيكو) يرى أن مصطلح (جمالية التلقي) امتداد لمصطلح (النص المفتوح) ومن ثم تختلط المشاعر بالتأويل وإشكالية القارئ شغلت (إيكو) ومن ثم حاول التفريق بين (التأويل) المعتمد على (السيميائيات) والتأويل المعتمد على مجرد التفكيك، وذلك في كتابه (التأويل بين السيميائيات والتفكيكية) وهو لكي يؤكد على مركزية القارئ يدافع عن التأويل المضاعف في الفصل السادس من كتابه آنف الذكر.
ولكيلا نغمط العرب حقهم في قضية الاستقبال وأهمية القارئ نحيل إلى دراسة الدكتور محمد المبارك (استقبال النص عند العرب) وإلى أسباب اختلاف المفسرين، والقارئ العربي، وإن لم يعبأ بِسَكِّ المصطلحات، فإن له إرهاصات توحي بوعيه التام بحقه في التلقي والاستقبال والاستجابة والقراءة. وهي مصطلحات قد تؤدي معنى واحداً وطغيان سلطة المتلقي تُقْبل في مجال الدراسات الأدبية، ولكنها ليست مقبولة على الإطلاق في مجال النصوص الشرعية، وإن كان هناك تميز بين القراء كما أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: (بلغوا عني ولو آية فَرُبَّ مُبُلغٍ أوعى من سامع). وكذلك إشارته التمثيلية في تفاوت المتلقين في الحديث المتفق عليه: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا وأصاب منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأً..).
ولقد أشرت إلى تطاولات غير رشيدة وغير مهذبة مَسَّتْ قدسية النص القرآني اقترفها مُسْتَغْربون لا يُقَدِّرون الله حَقَّ قدره، نجد ذلك عند (محمد أركون) و(نصر حامد أبي زيد) و(علي حرب) وآخرين استدرجتهم مفاهيم الحق والحرية والأنسنة والتلبس اللغوي دون تفريق بين قيم النصوص من حيث القطعيات الدلالية واحتمالياتها.
ودعك من أصحاب الملل والنحل والأهواء الذين عطلوا النصوص بالتأويل الفاسد، ولك أن تراجع كتاب (الشيعة الاثنا عشرية ومنهجهم في تفسير القرآن الكريم) تأليف محمد إبراهيم العسَّال، ومخطوطة (كشف الاتجاه الرافضي في تفسير الطبرسي) للطالب (أحمد طاهر أويس) ومجمل تهافت القراءات المعاصرة كما هي عند (شحرور) وأضْرابه، ومدار ذلك كله يحال إلى سلطة القارئ.
ونحن إذ لا ننكر حق القارئ، وقيمة التأويل فإنما نراها في المنتج الإنساني لا في الوحي الرباني. ومثلما تركت سلطة النص من المعارف والمناهج والآليات تركت سلطة المتلقي، على أن النقد العربي القديم وسع المراكز الثلاثة ولم يكن في معزل عن شيء منها كما لم يكن لأحدهما مزيد حق على الآخر، فالذين يحتفون بالمنتج لا ينقمون على اللغويين والعروضيين ولا على القراء المستبدين، فأصحاب الطبقات إلى جانب اللغويين، و(المتنبي) يمر بشراح شعره في الطرقات فيقف مستمعاً حتى إذا قَوَّله الشارح ما لم يقل أطلق لفرسه عنانه وذهب لا يلوي على شيء، وقد يراجع الشارح على استحياء بل قد يحيل سائلين عن مشكل شعره إلى من يُقَوِّله ما لم يقل، أما النقد الحديث فقد تبدت التحولات الجذرية، فهو إما مع المنتج أو مع النص أو مع القارئ.
وكل ما أشرنا إليه لا يتعلق بما تعرضت له النصوص التوراتية في مرحلة التنوير من تأويل ألغى مدلولها ولم يلغها، وكان الهدف الأساس إلغاءها، ومن ثم ظهرت نظريات التأويل (الهرمنيوطيقا). وذلك ما عرف بفهم الفهم مدخلٌ إلى نظرية التأويل.. والمركز إذ تنقل بين المنتج والنص والمتلقي فإنه قد تخطى ذلك إلى ما عرف (بالنقد الثقافي).. ولكنه انتقال جزئي ولم يكن بحجم التنقلات السالفة كما لم يحصن بالوهج الذي صاحب ما سلف، وإن كان قد بدأ من فرنسا كما أشار (دليل الناقد الأدبي) وتنقل بين ألمانيا وأمريكا، وكانت بداياته غير الواعية على يد (طه حسين). فيما كانت المحاولة الجادة على يد الدكتور عبدالله بن محمد الغذامي في كتابه (النقد الثقافي: قراءة في الأنساق الثقافية العربية) وقد اعتمد -كما يشير الدليل- على (فِنْسنت ليتش) الناقد الأمريكي، ولأن المحاولات العربية متواضعة فقد صرفنا النظر عن الحديث عن هذا التحول الجزئي.
تلك إلمامة عجلى نتمنى أن يبتدرها مقتدرون لتحرير مسائلها وتأصيل معارفها، فنحن أحوج ما نكون إلى مثل هذا الرصد التاريخي والمعرفي المحايد، ليكون المتابع على بيّنة من أمره.