Al Jazirah NewsPaper Saturday  10/05/2008 G Issue 13008
السبت 05 جمادى الأول 1429   العدد  13008
دفق قلم
لغة المطر
عبد الرحمن بن صالح العشماوي

حينما حلَّقت بنا الطائرة في أجواء أبها بعد رحلةٍ استغرقت ساعةً ونصف الساعة من الرياض، لم تكن تحلِّق في أفق مكشوف، بل في أفقٍ ملبَّد بالغيوم المتراكمة، بقصورها وحصونها وجبالها وآكامها العجيبة، وبألوانها التي تهزُّ نفس الرائي من الأعماق دون أن يستطيع لها وصفاً، أو عنها تعبيراً، أو لجمالها البديع تصويراً.

الطائرة تحاول أن تخترق ندْفَ الغمام الذي يحول بينها وبين الأرض، والبرق الخاطف برسم خطوطه المتوهجة في أديم السحاب، وكأنه متعهد بعرضٍ هو أجمل العروض النارية التي يمكن أن يستمتع بها الناظرون.

عَرْضٌ ناري؟ أستغفر الله من هذا التشبيه الذي ينحدر بتلك الروعة المنقطعة النظير التي يرسمها البرق في سواد الغيوم وبياض السحاب.

اخترقت الطائرة تلك الجبال العجيبة، ونالت حظَّها من الاهتزار والتأرجح حتى أصبحت فوق مدينة أبها وجهاً لوجه، هنالك هدأت، وكأني بها تتنفَّس الصُّعَداء بعد أن خرجت من دوائر الغيوم المتشابكة الكثيفة.

هبطت الطائرة في مطار أبْها، وكان وميض البرق، ومعه رذاذ المطر الخفيف، ونسائم الهواء الباردة، وحنين الرَّعد المكتوم في صدور السحائب المفعمة بالحنين، كان ذلك كلُّه هو وفد الاستقبال الذي لقي المسافرين بهذا المهرجان الربيعي الكبير، كان رذاذ المطر همساً جميلاً في آذاننا، كأنما هو بَوْحُ السحائب لنا لما تخفي من الحب والشوق الدفين، وهل هنالك أجمل من هَمْس الرَّذاذ، وأحسن من وَقْعه الهادئ على ملامح الوجوه المتألقة بالفرحة والأُنس؟؟

رضينا بهمس الرذاذ الجميل، وسعدنا به كل السعادة، وكأنما رأت السحب هذه السعادة وذلك الرِّضا فهاج بها الشوق إلى لهفة الثرى، وشغف الأرض، ولوعة الأشجار، وحرَّك مشاعرَها العميقةَ إحساسُنا العميقُ بها، فما رضيت بالهمس الرَّذاذي معبِّراً عنها، وإنما حركتْ مراكبَ شوقِها بهزيم رَعْدٍ تهتزُّ إليه الجبال شوقاً، وبوميض برقٍ يشق الغمام شقَّاً، ثم بحديث المطر الغزيرِ، الذي حوَّل هَمْسَ الرَّذاذ الهادئ، إلى صوت المطر الهادر، وحوَّل معه مشاعرَنا إلى أرقى درجات الإحساس بالجمال والجلال وإلى أقصى مسافات الشوق المتفجِّر في نفوسنا حنيناً ولهفة واشتياقاً.

لغة المطر يا بَشْر، ما أجملها من لغة، وما أحسن حروفها، وأروع معانيها، وأبدع صياغتها، ما أعمقها من لغةٍ ذات معانٍ مشرقة من الخصب والنماء والعطاء، اللهم لك الحمد على هذه النعمة العظيمة.

لقد أطربتنا لغة المطر يوم الثلاثاء 1-5-1429هـ أيَّما إطراب، وظلَّت تحدِّثنا بأجمل أحاديثها منذ أن انطلقنا من أبها إلى السودة إلى العقبة الصمَّاء إلى رجالِ ألمع، إلى قرية رُجال، ساعتان مرتا مروراً عاجلاً كنا نحن المستمعين المصغين وكان المطر هو المتحدث الفصيح البليغ.

إشارة:

إنها لغة المطر يا بشر.. إنها لغة المطر.



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5886 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد