وردت خلال جلسة الحوار الوطني مع معالي وزير العمل مداخلات تطالب أن ينص قانون العمل الجديد على منع الاختلاط في مجالات العمل.. وتبع ذلك سلسة برامج وحلقات فتاوى تصحح وتنفي فتوى تُجيز الاختلاط..
كذلك ظهر الشيخ عبدالمحسن العبيكان في أحد برامج الفتاوى لينفي ما نُسب إليه جملة وتفصيلاً.
تتفق المراجع الشرعية أن الخلوة غير الشرعية هي الحرام، بينما يرى البعض من مراجع إسلامية أخرى جواز الاختلاط، ويستدل الفريق الذي يرى جوازه بأدلة صحيحة من السنة الشريفة، ومنها ما ورد في (صحيح البخاري) عن سهل بن سعد قال: (لما أراد أبو أسيد الساعدي أن يتزوج أم أسيد، حضر رسول الله في نفر من أصحابه، وكان هو الذي زوجها إياه، فصنعوا طعاماً، فكانت هي التي تقربه إلى النبي ومن معه). قال ابن حجر في شرح الحديث: (وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه، وجواز استخدام الرجل امرأته في مثل ذلك).
قبل الخوض في غمار هذا الاختلاف أو الخلاف الذي يشتد بين حين وآخر بين فئات المجتمع، أريد أن أؤكد أنني لست بصاحب رأي في هذا الشأن، ولست مؤهلاًً للإفتاء فيه.. مواطن من عامة المجتمع أعيش في الواقع، وأعلق على أحداثه.
علمتنا التجارب أننا نعيش في واقع لا يكترث كثيراً لرأي الفتوى إذا خالفت مصالح الناس، فالتغيير الذي يحدث في المجتمع يدل على أن الفتوى التي لا تتماشى مع الواقع تصبح مع مرور الوقت في طور النسيان، والأدلة على ذلك كثيرة.. بدءاً من تحريم لبس العقال وجهاز الراديو والبرقية وتحريم التلفزيون والصور الفوتوغرافية وأجهزة استقبال الأقمار الصناعية، وانتهاءً بتحريم دخول النساء إلى الإنترنت بدون محرم.
عوداً على بدء في مقدمة المقالة، وما تناقلته برامج الفتاوى من تأكيد على حرمة الاختلاط برغم من الاشتباه في جوازه.. لا يمكن بأي حال لمجتمع حضري أن يكون بدون اختلاط مثلاً في السوق أو الشارع أو المستشفى، بينما تجتمع مختلف المراجع الإسلامية على تأكيد حرمة الخلوة غير الشرعية، ومع ذلك لم تكترث أغلب فئات المجتمع لهذه الفتوى، وظلت تمارس الخلوة غير الشرعية ولم يحرك ذلك المشايخ والعلماء للمطالبة لإصدار قانون يحرم الخلوة غير الشرعية في العمل المنزلي من أجل منع هذا التجاوز الذي هو أشد حرمة من الاختلاط.
فالسائق الأجنبي الذي يُستقدم لقيادة سيارة المرأة العاملة يمارس شروط الخلوة غير الشرعية كذلك المرأة التي تُستقدم للعمل في البيوت ولخدمة العائلة أيضاً تكون أحياناً في خلوة غير شرعية مع الزوج، ومع الأبناء البالغين في أحيان أخرى.
السبب في عدم ارتفاع الأصوات في المطالبة لمنع هذا المحرّم المتفق هو عواقبه، فلو تم إصدار قانون للعمل يمنع استخدام المرأة العاملة للسائق الأجنبي، لكان لزاماً عليهم أن يسمحوا لهذه المرأة أن تقود سيارتها بنفسها، ولتم تشجيع ذلك من خلال برامج الفتاوى من أجل عدم حصول ما هو أشد حرمة وهو خلوها مع أجنبي في السيارة، كذلك لو صدر قانون يمنع استخدام العاملة المنزلية درءاً لمفسدة الخلوة غير الشرعية مع الزوج والأبناء لربما توقفت المرأة عن الخروج من بيتها للعمل.. أو يحدث مالا تحمد عقباه بين الزوجين!
هذا يدل على أن المجتمع تحكمه معايير أخرى غير الفتوى، إذ لا يستجب لفتوى التحريم عندما تقتضي مصلحته غير ذلك، وهو ما يدفعنا للتساؤل عن سبب ذلك.. لماذا المجتمع أحيانا يستجيب للفتوى وفي أحيان أخرى لا يلتفت للفتاوى الشرعية.. ويتجاوزها عبر إصراره على فعل الشيء مهما اشتدت حرمة الفتوى؟..
لعل الإجابة تكمن أيضاً في قدرة المجتمع على كشف التناقض في ما وراء بعض الفتاوى، وهل هي بالفعل قرار ديني خالص أم لها اعتبارات أخرى ومواقف لا يمكن التنازل عنها.. على سبيل المثال أيهما أشدّ حرمة في الدين: قيادة المرأة للسيارة أم خلوها مع السائق الأجنبي.. بيع المرأة للملابس النسائية أم خلوها من بائع الملابس النسائية الداخلية..
الاختلاط واقع اجتماعي ويحدث يوميا في مختلف الأمكنة والأزمنة في المجتمع، فالأسواق مختلطة وتعج بالعائلات رجالاً ونساءً..كذلك المستشفيات والمطارات فيها اختلاط وتجد فيها النساء والرجال، كما يحدث الاختلاط في الأسواق فالمرأة تذهب للسوق لشراء حاجاتها من الرجال.. وأيضاً يحدث داخل اجتماعات الأسر الكبيرة بين النساء والرجال وبين العاملات المنزلية.
لا يمكن بأي حال أن نفصل بينهما في هذه الأماكن.. فالاختلاط واقع لا يمكن تجاوزه.. ولن تستطيع الفتوى بتحريمه تغيير الواقع مهما تعالت الأصوات واشتدت الآراء مطالبة بفرض الفصل بين النساء والرجال في الأماكن العامة مثل الأسواق أو الخاصة مثل المستشفيات.
سيظل الصلاح سمة ذاتية وحصانة تبنيها التربية وتحميها البيئة المحيطة بالإنسان ضد الفساد في المجتمع، ولا يمكن لأي قانون أن يصلح الفاسد ذاتياً، ولكن قد يلزمه بالامتثال للقانون وبالأخلاق الحميدة وعدم الاعتداء على الآخرين سواء كان ذلك في بيئة الاختلاط الخاصة أو العامة..وإذا بدر منه ما يخلّ بذلك طُبقت عليه العقوبات.