خلال إقامتي للدراسة خارج المملكة كونت علاقات وصداقات مع مواطني البلدان التي عشت فيها، كبريطانيا والولايات المتحدة، سمحت لي بالتعرف على شخصية المجتمع وطبائع جماعاته وأفراده، والغوص في همه والتحليق مع حلمه.
هذ التواصل مع الآخر لا نجده سائدا عندنا. فالملايين من الإخوة والأصدقاء، يقيمون عشرات السنين في بلادنا، ثم يخرج كثير منهم بأقل قدر من الصلات الاجتماعية معنا.
قال لي مهندس باكستاني، كنت ألتقي به في المركز الإسلامي بمدينة يوجين، بولاية أورقين، إنه عاش فترة طويلة في المملكة، ثم انتقل للولايات المتحدة مع أسرته. ومع ذلك فالعلاقات التي كسبوها في أمريكا خلال وقت قصير، تفوق بكثير ما اكتسبوه عندنا. وانعكس هذا على سرعة تعلم أبنائه اللغة الإنجليزية من خلال صداقاتهم، فيما لم يستطيعوا تعلم العربية بسبب عدم قدرتهم على اختراق الحواجز التي أقمناها في تعاملنا معهم حتى في بيئة العمل والدراسة.
استغربت كلامه وكلام آخرين مثله، لأنني كنت أقيس على تجربة جيلي في المدرسة والحارة. لكنني عندما تجاوزت حالة الإنكار والدفاع، وبدأت أرصد وأحلل حالة الانفصام التي نعيشها مع الآخرين في مجتمعنا، وجدت أن الشكاوى التي سمعتها واقع حقيقي نعيشه، حتى عندما نسافر خارج البلاد. ففي المركز الإسلامي كان الخليجيون في جانب وغيرهم من الجنسيات في جانب آخر، حتى على سفرة الطعام. وفي أي بلد عربي أو أجنبي، تجدنا نتجمع في أحياء وشوارع وأسواق، وحتى مطاعم ومقاهي معينة، وكأنما خرجنا لا لنكتشف العالم من حولنا، ونتعرف على الآخرين، ولكن لنكتشف أنفسنا ونتعرف على بعضنا في ظروف أكثر تحررا ومرونة.
وعندما ندقق أكثر في تفاعلات وتشكيلات الفسيفساء الاجتماعية نصدم بمزيد من الانفصامية حتى بيننا. فالشللية في كثير من أحوالها تتمحور حول طبقية وعرقية تحول دون اندماج فئات المجتمع ببعضها. وبعكس ما كان عليه الحال في أزمنة مضت، يبدو أن هناك ردة لعصبية جاهلية تهدد تآلفنا بالخطر. فهناك فضائيات ومواقع على النت وتجمعات قبلية تحت ألوية تبدو مبررة، كالاحتفالات الشعرية، ومزايين الإبل. وهناك نزعة تفوق لا تقوم على وسام منجز ولكن على اسم جد. والأخطر أن هذه النزعة تزرع في عقول وصدور الناشئة.
لا أعرف كيف وصلنا هنا، ولكنني أدرك أننا نسير باتجاه خاطئ وخطير. فالاعتداد بالنفس مستحق عندما يكون له مبرر من إنجاز وعطاء، أما الاعتداد بالانتماء إلى قبيلة أو عرق أو طبقة لمجرد الانتماء، فعقدة نقص تعالج بعقدة عظمة. والفرق بين الكبرياء والكبر، كالفرق بين السمو والضعة، الحق والباطل.
kbatarfi@gmail.com