Al Jazirah NewsPaper Friday  09/05/2008 G Issue 13007
الجمعة 04 جمادى الأول 1429   العدد  13007
زحف ثقافة الشكوى والتذمر لمشهدنا الاجتماعي
د. خالد بن محمد الصغيّر

من يقوم بقرب بمتابعة الحالة الاجتماعية السعودية يلحظ أنماطاً سلوكية اجتماعية تأخذ المنحى السلبي، ويأتي على رأسها الشعور الطاغي لدى العديد من أفراد المجتمع السعودي بالشكوى والتذمر، فالصوت الطاغي على كل الأصوات يمكن اختزاله بكلمات مفادها ألا شيء يسير بشكل جيد في هذا البلد؛ ولذا نعيش دوماً حالة عدم الرضا عما الأمور عليه سائرة. فنحن متذمرون شاكون من كل شيء، ودائماً ما يكون غيرنا على خطأ، ونحن على صواب حتى صرنا نُنعت بأننا مجتمع لا يعرف إلا ثقافة الشكوى والتذمر.

فأنَّي اتجهت ببصرك يمنة أو يسرة سواء كان ذلك في المؤسسات التعليمية، أو الحكومية، أو في مؤسسات القطاع الخاص وحتى أثناء اللقاءات الاجتماعية العائلية والأسرية فستجد أن صوت التذمر والشكوى يطغى على غيره، فمتى ما ساقتك الأقدار لتقوم بزيارة مؤسسة أو دائرة حكومية ستلحظ أن العديد من الموظفين يمضون الوقت المخصص للعمل والإنتاج في بث لواعج الشكوى، أو تبادل عبارات التذمر والسخط، والانتقاد.. والأمر نفسه يسري على من يقوم على إدارتهم الذين تجدهم يمضون وقت العمل المخصص للإنتاج في حديث يقطر بالشكوى حيال أداء موظفيهم. وذلك ليس محصوراً فقط في نطاق حدود أسوار مؤسساتنا ودوائرنا، وإنما تجد المتذمرين أيضاً الذين جعلوا من مناحي الحياة الأخرى ميداناً لتذمرهم بما في ذلك الجوانب الاقتصادية، والثقافية، والاجتماعية، وغيرها من الجوانب، بل وحتى الجانب الشخصي طاله داء التذمر والشكوى، هذا سواء من العائلة نفسها لغير المتزوج، أو من عائلته الصغيرة، أو الكبيرة بالنسبة للمتزوج، وتتسع الدائرة لتشمل المحيط الاجتماعي برمته لكلا الطرفين.

وهنا نتحدث بشكل خاص عن أولئك الذين صارت الشكوى لديهم منهج حياة، يمسون ويصبحون على ترديد أواهات النفور من كل ما يحيط بهم، وذلك بالرغم من أن أحوالهم مستقرة، وليس في حياتهم ما يدعو إلى التذمر والشكوى، ولكنهم اتخذوا من الشكوى والبكاء مسلكاً يتبعونه في كل ما يتعاطون معه حتى لكأنهم كما ولدوا بُكاة يظلون طوال حياتهم شُكاة إلى أن يغادروا مسرح هذه الدنيا.

الشاكون والمتذمرون يتوقف جهدهم عند إطلاق صرخات التذمر والاعتراض، ولكنهم ما إن يُطلب من أحدهم إحداث تغيير في واقع الحال، أو التقدم بمقترح يؤدي إلى تطويره، أو على الأقل تلافي القصور فيه تجد ألسنتهم الطويلة قد ارتدت على قفاها ولم تعد تنطق ببنت شفة.

وصار المرء يشعر بأن ذلك النوع من الناس إن لم يجد ما يتذمر ويشكو منه فحتماً سيشكو حاله، ولِمَ لا فهي البضاعة التي لا يجيدون سواها ويحاولون في كل مرة تصيُّد المثالب التي يمرون بها هنا وهناك وتكبيرها حتى تغطي كل شيء جميل. كما أنهم يقومون بإعطاء انطباعات وتصورات لا تكون واقعية.

وخطورة تزايد وتيرة هذه السمة الاجتماعية السلبية في أنها تؤثر سلباً على إنتاجية المجتمع وتطوره؛ لأن العديد من أفراده بدلاً من توجيه فكرهم، وجهدهم نحو العمل، والإنتاج، وبث روح الإيجابية في محيطهم سيصرف ذلك لا محالة إلى الناحية الأخرى المؤدية إلى التقاعس، وعدم الجدية، ومضاعفة الإنتاج والعمل. وذلك لا شك سيصرفنا عن الإنتاج المثمر والتقاعس عن السعي لخدمة مؤسساتنا، ومجتمعنا، وفي كل ركن من أجزاء وطننا.

وهذه الممارسة الاجتماعية السائدة على نطاق واسع تقف أيضاً حائلاً دون محاولتنا الجادة للعمل على تحسين الوضع القائم؛ نظراً إلى شعورنا بقدر عال من التذمر، بل إننا أصبحنا أكثر ابتكاراً لثقافة الشكوى بدلاً من أن نزرع أملاً وطموحاً في تقديم الأفضل، ووصل بنا الحال إلى استبدال العمل بالشكوى، والاستعاضة عن النشاط وبذل الجهد بالتذمر، وإضاعة الوقت بكلام من نوع ليس فقط لا يضيف، ولكنه أيضاً يتسبب في عرقلة العمل والإنتاجية. كما أنها على الجانب الشخصي تجعل من حياة المرء جحيماً، أو لنقل قطعة متصلة من العذاب اليومي، وتثير استياء المقربين منه، وتجعل منطلق نظرته وحكمه على الأمور كلها مبنياً على السلبية، وإلقاء اللوم على الآخرين.

والسؤال الذي يطرح نفسه: هل من سبيل لإيقاف زحف ثقافة الشكوى والتذمر القادم بقوة ليقتحم مشهدنا الاجتماعي والوقوف، أو محاولة صد تكرس ثقافة الشكوى والتذمر المتنامية يوماً بعد آخر مقتحمة ومتغلغلة في أوساط متنوعة داخل مجتمعنا على المستويين الشخصي والاجتماعي؟ هناك الكثير مما يمكن عمله؛ نحن كأفراد بحاجة إلى مراجعة دائمة لسلوكياتنا؛ حيث يمكن أن نُحدث انقلاباً أبيض في طريقة تفكيرنا، ونظرتنا لذواتنا، والأمور المحيطة بنا، وأن نعمل بدلاً من التشاكي والتباكي على إحداث تغيير نوعي في واقعنا الذي نمر فيه. نحن أيضاً بحاجة إلى التخلي عن النظرة السلبية السوداوية، والنظر إلى الأمور من زاوية أن هناك الكثير من الحسن بجانب السيئ، وهذا السيئ يمكن بمضاعفة الجهد نقله إلى مصاف الأمور الحسنة. ومن هنا فالتفكير السلبي يجب أن يتحول إلى تفكير إيجابي؛ لأنه يمنحنا القوة، والإصرار على تحويل الجانب المظلم إلى واقع مشرق برَّاق، ويجعلنا في الوقت نفسه رافضين للفشل والهزيمة والاستكانة للشعور بالسلبية.

كما أننا أيضاً يجب أن نعرف ماذا نريد، وأن نحدد أهدافنا التي نحن بحاجة إلى التركيز عليها في محاولة منا لتحقيقها على أرض الواقع، وعدم التوقف طويلاً عند الأمور التي لم نتمكن من تحقيقها. إنَّ تركيزنا أيضاً يجب أن يكون منصباً على ما يمكن فعله، وعدم التفكير أو لنقل الالتفات إلى ما لا يمكن فعله، وبسلوكنا لهذا المنهج نكون قد قمنا بتحويل تفكيرنا إلى تفكير إيجابي. نحن أيضاً يجب أن تكون ذواتنا منطلق التغيير، وليس العكس؛ فنحن يجب أن نبدأ مشوار الألف ميل لا بطلب تغيير كل ما هو من حولنا، وإنما يجب أن تكون الانطلاقة بالسعي نحو تغيير أنفسنا أولاً وقبل كل شيء.

بإمكاننا أيضاً تبني ما يمكن تسميته بثقافة البديل، وهي أن نفكر بالبديل، وأن نفكر بالصواب ونحن ننظر إلى الخطأ، وأن نساهم في وضع الحلول عندما نجد المصاعب، ولا يتوقف جهدنا عند رفع رايات الشكاوى والتذمر دون أن يكون لدينا أي حل، أو مبادرة جادة لحل مشاكلنا وما قد يواجهنا من مصاعب.

ويمكننا كذلك النظر إلى الحياة من زاوية شمولية تحوي المتناقضات؛ فهناك الجانب السلبي والإيجابي فيها، وعدم النظر إليها أو إلى محيطنا وشأننا من زاوية واحدة ضيقة سلبية نترجمها إلى تذمر وشكوى قولية بل وحتى سلوكية. وكذلك نحن بحاجة إلى البحث عما يسعدنا وما يشقينا، ومن ثَمّ البحث عن الطرق التي يمكننا سلكها لنحصل على الراحة التي نريد، وبذلك نكون قد أوصدنا الأبواب حتى لا تجد الشكوى والتذمر الدائم طريقاً تنفذ منه إلى حياتنا ومعيشتنا. وإلى جانب ذلك كله نحن بحاجة إلى تبني مبدأ المرونة في التعاطي مع الأمور وعدم البحث عن الكمال، ويحسن بنا أيضاً أن نتذكر دوماً أنه ليس من حقنا أن نُسيّر، أو أن نطلب أن تُسيَّر الأمور بحسب ما نهوى ونرغب دون أخذنا في الحسبان الظروف المحيطة.

وفي الختام على المرء أن يتذكر أنه بما أن بواعث الخير متواجدة في كل زمان ومكان، كما هو توافر أسباب الطمأنينة في كل الأحيان، فما الداعي لتبني الشكوى أو التذمر كمنهج حياة يزيد من تعاستنا وشقائنا؟.



alseghayer@yahoo.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد