هكذا دفعتني المفردات الثرية.. لرغبة عارمة أتوقف عندها وأتسربل بالذهول حينَ تخرج الحكمة من أفواه صغار السن.. عندها يحتم علينا أن تقف إجلالاً لثقتهم الكبيرة بخالقهم، ولقناعتهم والرضا بما قسم الله لهم من حياة. قد تكون بسيطة لكنها حلوة أشهى من العسل، لا يشوبها ألم أو تعب أو مرض، حياة تركن إلى البساطة والقناعة التامة. بات من الصعب علينا أن نحياها ونحن بين دفتي متطلبات لا تنتهي هذا الزمن المفعم بالفراغ في عالم يزداد ظلماً وظلاماً. ما الذي بوسعي أن أقوله سوى أن الأقنعة غلفت كلَّ شيء.. حتَّى أصبح كل من حولنا يجرحنا، يجرح مفاهيمنا الخاطئة، يجرح براءتنا، الفضاء الناصع.. حينَ أقرأ مثل هذه العبارات البيسطة غير المستهلكة التي لا تصدر إلا من عقل راجح حكيم، مدرك الحياة بكل ما فيها. حينها أخجل من نفسي من ملابسي النظيفة الأنيقة، من عطري الباريسي، من النقود التي أحملها في حقيبتي، من الأفكار التي تزاحمني لأمتلك شيئاً في هذه الحياة كلّها أمام ذلك القانع البسيط الصغير الذي لا يحمل في هذا العالم سوى فقره وقناعته بالقليل!
واصطفاني الصمت للحظات وأنا بين تلك الكلمات كأنها طلق ناري يهشم كلَّ الزيف، وفي النهاية ابتسم لأني أدركت حقيقة أن الحياة صفحة من كتاب بلا كتابة.. إذاً ما حاجتنا لكل هذه الإطارات لتجمل حياتنا. طفل بائس بثياب رثة يحتمي من مطر السماء بباب. أشبه بوردةٍ وسط أوجاع العالم وأفواههم التي لا تشبع.. كائنٌ مُحتاجٌ ومعطاءٌ.. يحمل سر القناعة التي بات علينا أن نتعلمها منه ليس على مدرجات الجامعة بل من كتب الحياة. في حجرة صغيرة فوق سطح أحد المنازل، عاشت الأرملة الفقيرة مع طفلها الصغير حياة متواضعة في أحوال صعبة.....
إلا أن هذه الأسرة الصغيرة كانت تتميز بنعمة الرضا وتملك القناعة التي هي كنز لا يفنى... لكن أكثر ما كان يزعج الأم هو سقوط الأمطار في فصل الشتاء، فالغرفة عبارة عن أربعة جدران، وبها باب خشبي، غير أنه ليس لها سقف!..
وكان قد مرَّ على الطفل أربع سنوات منذ ولادته لم تتعرض المدينة خلالها إلا لزخات قليلة وضعيفة، إلا أنه ذات يوم تجمعت الغيوم وامتلأت سماء المدينة بالسحب الداكنة......
ومع ساعات الليل الأولى هطل المطر بغزارة على المدينة كلها، فاحتمى الجميع في منازلهم، أما الأرملة والطفل فكان عليهما مواجهة موقف عصيب. نظر الطفل إلى أمه نظرة حائرة واندسّ في أحضانها، لكن جسد الأم مع ثيابها كان غارقًا في البلل...
أسرعت الأم إلى باب الغرفة فخلعته ووضعته مائلاً على أحد الجدران، وخبأت طفلها خلف الباب لتحجب عنه سيل المطر المنهمر.. فنظر الطفل إلى أمه في سعادة بريئة وقد علت على وجهه ابتسامة الرضا، وقال لأمه: (ماذا يا ترى يفعل الناس الفقراء الذين ليس عندهم باب حين يسقط عليهم المطر؟! لقد أحس الصغير في هذه اللحظة أنه ينتمي إلى طبقة الأثرياء..
ففي بيتهم باب!!!!!!
فهل في بيتكم باب؟؟؟؟