.يقول خير الدين الزّركلي في كتابه شبه الجزيرة في عهد الملك عبدالعزيز كان
أول ما عُنِيَ به الملك عبدالعزيز بعد استصفائه الحجاز والدخول في طور الاستقرار، تنظيم الدولة، وتوزيع التبعات (المسؤوليات)، ثُم بدأ يعدد أعماله التنظيمية التي كان لها أثر كبير في الخارج، تلك الأعمال التي كان لها سُمعة كبيرة، وبدأ يتكاثر عدد الحجاج، بعدما تحقق لهم توفر الأمن الذي كان هاجس الملك عبدالعزيز رحمه الله ا.هـ.
..وقد اطلعتُ على كتاب عنوانه: في الأرض المقدّسة (بين مصر
والحجاز) بقلم إبراهيم محمد حبيب، عضو مجلس النواب، والقاضي بالمحاكم الوطنية، الذي حج في الخمسينات من القرن الماضي، يحكي في كتابه هذا الذي يبلغ (176) صفحة بدون فهارس، انطباعاته عن الحج من مصر حتى مكة والمدينة، وما رأى فيهما ثم عودته لمصر، في فترة لم تزد على أسابيع، ويقارنها بالماضي، وما لقي من حفاوة وتكريم، وأمن وأمان.
وقد تحدث عن نظرات تاريخية، حول مكة المكرمة والمدينة المنورة، والأماكن المقدسة، وكل هذا متوفر في الكتاب، والمناهج الدراسية، ولكن الذي يعنينا، من كتابه هذا ما جدّ في الأماكن المقدسة، بعدما انْضَوتْ تحت قيادة الملك عبدالعزيز، رحمه الله، الذي أحدثت أعماله وحماسته نقلة كبيرة، على البلاد، وما يتعلق بالحجاج، فتأثر بذلك المؤلف، ورصد بعضه في كتابه هذا.
فبدأ في ص23 يوضح الحافز له: في السفر لأداء فريضة الحج، مع أنّ رحلة الحج كانت قبل عهده، شاقة ومخيفة لكنه طمأن بقوله: لقد علمت بأن على الحجاز عاهلاً يأنس الحجاج إليه، ويرون في وجوده خير ضمان، لراحتهم وأمنهم وطمأنينتهم، وبمملكته خير كثير، وفوق ما يطلبه الحاج، من ضروريات وكماليات، وفي كتابي هيكل: (منزل الوحي)، و(حياة محمد)، وفي أعمال طلعت باشا، ما يبعث النفس على الإسراع للحج.. وهذا ما جعله يقارن بين أعمال الحج والسفر إليه، من مخاطر قبل العهد السعودي، حيث قال: لقد كان الحجاج سابقاً يتعرضون لكل المتاعب والأخطار: يقضون فيها الشهور، ويستودعون الله: أولادهم وقراباتهم، وهم يغلبون الظنون ألا يعودوا.
ثم يصف حالتهم عند الاستعداد للسفر، في حمل ما يحتاجون إليه وفي الوداع بالبكاء والدموع، كأنهم ينتقلون من العمران إلى نقيضه، فما بالنا وقد هان السفر، وانتشرت ظلال الأمن، منذ كانت الكلمة لابن سعود، الذي غيَّر الله به الأحوال وأمنت البلاد.
وفي ص25 يقول: واليوم زالت المخاوف، ويجد الحاج الأمن والطب وجميع الحاجات التي لا توجد في بلادنا بمصر، من رفاء المعيشة والراحة، وكل الأمور ميسرة وبترحاب.. وقد تفاءل برحلته قبل وصوله لجدة بالمطر الذي انهمر مدراراً.
ثم لما وصل جدة مع الحجاج المصريين، قال: هذا مدخل بلاد العرب من البحر، وهو طريق الوصول لمكة مسقط رأس رسول الله، وهذه ديار العرب الذين سيطروا زمناً على مُلكٍ واسع الأطراف، وأنشأت أمة العرب، حضارة واسعة، بسلطان واسع مع تمسكم برجولتهم.
وفي ص43 يرد على عبدالقادر المازني في قوله: ليس في جدة فنادق ينزلها القاصدون للحج، وذكر مقالته، وكان من رده: الواقع أنّ الفنادق بجدة قديمة، وموجودة قبل رحلة المازني.. ثم ذكر الرحالين الذين سبقوا المازني، وذكروا بجدة فنادق وزوايا وجوامع وحمّام.
وردّ على البتانوني الذي حج مع الخديوي عباس، ومرئياته عن مكة وجدة، وما فيهما من المباني التي تماثل الأحياء الجديدة بالقاهرة.
وفي ص51 ذكر أنّ جدة محاطة بسور، وله تسعة أبواب، وفي طريقهم إلى مكة خرجوا مع الباب الشرقي، الذي به دار البوليس الذين يطلعون على الأوراق الثبوتية للمسافرين لمكة، ومدح حسن تعاملهم مع المسافرين، وأثنى على أخلاق رجال الأمن، وبشاشتهم مع المسافرين.. والطريق إلى مكة ترابي وغير معبّد، وفي مكة ص62 ذكر أن شوارعها في الليل بدون إضاءة والناس يسيرون على هدي مصابيح يحملونها والبيوت محيطة بالحرم وبالمسعى.
واستعرض ما مرَّ في التاريخ، ممن يريدون صدّ الناس عن بيت الله الحرام: في عام الفيل، ثم القرمطي الذي قتل الحجاج ورماهم في بئر زمزم، وما عملته غطفان قبل الإسلام، فبنوا حرماً ليحج العرب إليه، فمر بهم زهير بن خباب، ملك العرب ذلك الوقت حتى قهرهم. وعن نماذج مما ذكر، ممن يريد الصدّ عن الحرم، فقال: وكل هذا يدل على ما للكعبة في نفوس الناس، من قديم الزمان من احترام، وزادها تكريماً حماية الله لها، وتكريم رسوله صلى الله عليه وسلم (ص90).
وربط ذلك بما ذكره عن تقديس العرب في الجاهلية، للكعبة: أنهم يرون البناء على الفضاء المحيط بالكعبة (الساحات) جرأة على قداستها، فجعلوا ما يحيط بها فضاءً واسعاً لا يسكنه أحد، إلا أن قُصياً قال لهم بعد أن انتصر على قبيلة خزاعة: إنْ كنتم حول الكعبة، هابتكم الناس ولم تستحلّ قتالكم، والهجوم عليكم.
وضرب المثل: بأن بنى دار الندوة، ثم قسم باقي الفضاء، بين قبائل قريش.. فبنى القُرشيون دورهم حول الكعبة، وجعلوا بيوتهم دائرية، والكعبة مربعة، إجلالاً لها عن التشابه، وجعلوا ارتفاع منازلهم ضئيلاً وبدور واحد، لا يسمو إلى علياء الكعبة، وجعلوا أبوابهم متجهة نحوها، حتى لا يحتجبوا عنها.
ثم ظلوا يتلاصقون بفضائها، حتى ضاق، بينهم وبين الكعبة، ولم يتركوا منه سوى ما يسمح بالطواف، للطائفين، وهم في ذلك الزمان قلّة (ص96 - 99).
وذكر أخبار سيل أم نهشل، الذي كان في أيام خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وأنه دخل الحرم، وحمل مقام إبراهيم إلى أسفل مكة، ومات به خلق منهم أم نهشل، وعن إسراع عمر، رضي الله عنه، بالمجيء من المدينة للوقوف بنفسه على الإصلاحات بعد هذا السيل العظيم.. وبالمناسبة فإن للدولة السعودية مآثر كثيرة في تعمير الحرمين يراها كل حاج ومعتمر وزائر، ومما لا يراه الناس، وهو مشروع جبار، تصريف السيول، ودرء خطرها عن الحرم المكي، التي يذكر الرحالون، ومنهم ابن جبير، ما تحدثه من أضرار ووفيات، كلما دخل الحرم، بجريان وادي إبراهيم، حتى أنه ذكر في رحلته التي حج فيها، أنّ الناس صاروا يطوفون سباحة ومع ارتفاع باب الكعبة، فقد دخلها وغرق كثير من الطوافين.
فكان مع مشروع توسعة الحرم، إيجاد نفق عظيم، تمرّ معه أكبر سيارة: طولاً وعرضاً وارتفاعاً، حتى تصل إلى أسفل مكة، فانتهت بحمد الله مخاطر السيول على حرم الله، وبيته المحرّم.. وهذا بفضل من الله، ثم بالجهود المباركة التي تقوم بها الدولة السعودية، منذ دخلها الملك عبدالعزيز، رحمه الله، ومع تعاقب ذريته.. وفقهم الله في خدمة الحرمين الشريفين.
وفي عام 164هـ ذكر حج المهدي العباسي، حيث رأى أنه لا بد من توسعة الحرم الذي بدأ يضيق بالحجاج صلاةً وطوافاً. فقال له أحد المهندسين: هذا يكلف كثيراً فقال: لا بُدَّ من توسعته، وجعل الكعبة في الوسط ولو أنفقت جميع ما في بيت المال، وأمر بشراء الدور، وهدمها وبلغ ثمن الذراع، خمسة وعشرين ديناراً (ص100).
ولما كان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في كل عام يقود الحجيج، ويستقبلهم فكان المؤلف من بينهم ذلك العام، فيقول عن بيت الحكومة: بيت الملك عبدالعزيز بعدما أثنى على التنظيم، ووصف القَصْرَ، وما لَقِي حُجاجُ مصر البارزين من ترحيب وحفاوة، إنّ مِن التنظيم أن كل مدعو معه ورقة الدعوة (بطاقة)، ومحدد فيها وقت العشاء بعد صلاة المغرب، وفي اليوم المحدد حملتهم السيارات من باب الحرم، إلى دار الحكومة.
لكنّه لم يحدد أينَ كان موقع دار الحكومة، ذلك الوقت، مِنْ مكة.. وأردف قائلاً عنه وعن الذين معه من مصر: ووجدنا القصر مكوّناً من طابقين، وأمامه سور، ورجال الحكومة عند الباب الخارجي، ويستقبلون ويرحبون، بالبشر والسرور، فصَعِدْنا مع الضيوف السلم المفروش بالأبسطة الحمراء. ا.هـ.
وقد سألت العارفين بمكة جيداً، عن موقع القصر الملكي، الذي ذكره هذا الحاج وغيره، ممن يقابلون الملك عبدالعزيز، فقال: إنه الموجود حالياً في المعابدة، والمعروف باسم قصر السقاف، وقد أخِذَ منه الشارع الذي فُتحَ منذ سنوات، من مقدمته وقد كانت إمارة منطقة مكة سكنته طويلاً، ثم أمانة العاصمة، وقيل: إن أصله هو قصر البياضية، الذي بناه الإمام سعود بن عبدالعزيز الأول: أيام دخوله مكة من عام 1214هـ، رحمه الله، حيث حج تلك السنة حجته الأولى كما ذكر ابن بشر. (للحديث صلة).
ذو الجّدَّيْن :
قال ابن رُشَيْق في كتابه: العُمدة: كان من حديث ذي الجدّيْن، أن الملك النعمان بن المنذر، قال: لأعطينَّ أفضل العرب مائة من الإبل، فلما أصبح الناس اجتمعوا لذلك، فلم يكن قيس بن مسعود فيهم، وأراده قومه على أنْ ينطلق، فقال: لئن كان يريد بها غيري، لا أشهد ذلك، وإنْ كان يريدني بها لأُعْطينَّها.
فلما رأى النعمان اجتماع الناس، قال لهم: ليس صاحبها شاهداً فلما كان من الغداة، قال له قومه انْطَلِق فانْطَلق، فدفعها إليه الملك، فقال حاجب بن زرارة: أبيت اللعن، ما هو أحق بها مني، فقال: قيس بن مسعود: أُنافِرُهُ عن أكرمنا قصيدة، وأحسننا أدب ناقِه، وأكرمنا لئيم قوم.
فبعث معهما من ينظر ذلك، فلما انتهوا إلى بادية حاجب بن زرارة، مرّوا على رجل من قومه، فقال حاجب: هذا ألأم قومي، وهو فلان بن فلان، والرجل عند حوضه، ومَوْرد إبله، فأقبلوا إليه، فقالوا: يا عبدالله، دعنا نستقي، فإنا قد هلكنا عطشاً، وأهلكنا ظهورنا، فتجهم وأبى عليهم، فلما أعياهم قالوا لحاجب: أسْفِر؟ فسَفَر، فقال: أنا حاجب بن زارة، فدعنا فلنشرب. قال: (أنت؟ فلا مرحباً بك، ولا أهلاً، فأتوا بيته، فقالوا لامرأته: هل من منزل يا أمة الله؟. قالت: والله ماربّ المنزل شاهد، وما عندنا من منزل، وراودوها على ذلك فأبتْ).
ثم أتوا رجلاً من بكر بن وائل، على ماء يورد إبله، قال قيس: هذا والله ألأم قومي، فلما وقفوا عليه، قالوا له مثل ما قالوا للآخر، فأبى عليهم، وهمّ أن يضربهم، فقال له قيس بن مسعود: ويلك أنا قيس بن مسعود، فقال له: مرحباً وأهلاً، أورد، ثم أتوا بيته فوجدوا فيه امرأته، وقدرها يئطّ، فلما رأت الركب من بعيد، أنزلتْ القدر وبردت، فلما انتهوا إليها قالوا: هل عندك يا أمة الله من منزل؟ فقالت: نعم انزلوا في الرّحب والسعة، فلما نزلوا طَعِموا وارتحلوا.
فأخذوا ناقتيهما فأناخوهما على قريتين للنمل، فأما ناقة قيس بن مسعود، فتضرّوت وتقلّبت، ثم لم تنز، وأما ناقة حاجب فمكثتْ وثبتتْ، حتى إذا قالوا قد اطمأنت، طَفِقتْ هاربة.
فأتوا الملك فأخبروه بذلك، فقال له: قد كنت يا قيس ذا جدّ، فأنتَ اليوم ذو جدّيْن، فسُمِّيَ بذلك ذا الجدّين، وقيل: إنما سُمِّيَ بذلك: لأسيرين أسرهما مرّتين، وقيل بل سَبَقَ سَبْقَتين، هكذا جاءت الرواية (1: 223-224)