للملك فيصل -رحمه الله- في نفسي منزلة وقدر، وذاك أنني حينما كنت يافعا أخطو إلى جامع المربع. للصلاة معه، بصحبة العم الشيخ عبدالعزيز الزبن أمد الله في عمره، كنا نتطلع إلى رؤية محياه الذي تشاهد فيه أبهة الملك بزي النساك، وكان رحمه الله تقبله القلوب، وتتبعه العيون، فأصدق وصف لشخصه ما قال الإمام الذهبي عن المنصور: (فحل بني العباس هيبة وشجاعة، ورأيا وحزما، ودهاء وجبروتا، وكان جماعا للمال حريصا، تاركا للهو واللعب، كامل العقل، بعيد الغور، حسن المشاركة في الفقه والأدب والعلم).
هذه المكونات الشخصية والمؤثرات جعلت منه شخصية قيادية في إدارة الحكم، وسوف أذكر نماذج وقائع لحسن قيادته وحزم إدارته في مجالات عدة.
أولاً: من مواقفه في التعليم.
حدثني العم عبدالعزيز أنه كلف بقضية تعليمية في إحدى مناطق المملكة، وهذا التكليف جاء بناء على شكوى من أحد المواطنين الذي بالغ في خطابه حيث كتب للملك فيصل: (نعزيكم في العدالة التي دفنت مع أبيكم -رحمه الله- ثم ذكر مشكلته. فكانت استجابة الملك فيصل سريعة وحازمة حيث كتب عليها بقلمه الرصاص:
أ- يوقف المذكور حتى يتحقق من الكلام.
ب- تشكل لجنة للتحقيق في الشكوى خلال أسبوع.
وبعد أن حقق في القضية ورفعت نتيجة التحقيق إليه وتبين صحة الشكوى أمر ب:
أ- إطلاق سراح صاحب الشكوى.
ب- مساءلة صاحب الصلاحية والمتسبب في ذلك.
ثانياً: من مواقفه في الاهتمام والرعاية للحرمين الشريفين والوقوف على ذلك بنفسه.
فحينما تمت توسعة المسعى وانتهت، جاء للإشراف على ذلك والوقوف على ذلك بنفسه، وكان في المسعى طريق للعربات الغادية والرائحة فقاس طريق العربات بنفسه ثم زاد عليه بمقدار أربعة أصابع، كل ذلك بنفسه.
ثالثا: من مواقفه في الاهتمام بالوقت ومراعاة العاملين معه.
الوقت عزيز ونفيس وكلما علت الهمم كان للوقت أهمية ليس للإنسان نفسه بل للعاملين معه، فكيف تنجز الأعمال في أوقات مضيعة؟
اعتاد رحمه الله أن يأتي إلى مكة المكرمة بعد وصوله إلى جدة أو الطائف، وكانت العادة قد جرت على أن يصل في الساعة العاشرة إلى باب الملك عبدالعزيز حيث يتم استقباله من قبل العاملين في رئاسة الحرمين.
وفي إحدى زياراته أبلغت إدارة الحرم المكي أن الملك فيصل خرج قبل المدة بنصف ساعة وعلى ذلك سوف يكون وصوله إلى مكة الساعة التاسعة والنصف، فتأهبوا للاستعداد لمقابلته، ثم تأخر فأبلغوا أنه سوف يأتي في المدة المحددة وأن النصف ساعة التي تقدم بها سوف يمر فيها على إحدى عماته في شارع المنصور.
رابعاً: من مواقفه خارج البلاد.
وإذا كان هذا في الداخل ففي خارج البلاد له مواقف أيضا.
فقد قام الملك فيصل بزيارة لأوغندا ورغم مضي ما يزيد على ثلث قرن فإن أهل أوغندا يتذكرون زيارة الملك فيصل ومواقفه ولسان حالهم يقول:
وكثير من السؤال اشتياق
وكثير من رده تعليل
انتقل الملك فيصل -رحمه الله- من كمبالا إلى جانجا وفي أثناء الطريق كانت الأشجار عالية جداً والأرض خضراء ومناخ أوغندا استوائي، فالتفت إلى عيدي أمين وقال له: (كم كلفتم هذه الغابات وما الوقت الذي استغرق لهذه الخضرة الجميلة). وفطن لهذا الكلام عيدي أمين.
هذه صور عن الملك فيصل رحمه الله، وإن هذه الندوة المباركة التي تقيمها دارة الملك عبدالعزيز ويرعاها أمير الوفاء والعلم والأدب صاحب السمو الملكي الأمير سلمان بن عبدالعزيز لهي عرفان بفضل الملك فيصل رحمه الله وجهوده التي يلمسها أبناء هذه البلاد بعد وفاته. رحمه الله.