علي الكردي
تنتمي رائدة الفن التشكيلي النسائي السوري، ليلى نصير إلى جيل الستينيات، وهي التي وُلدت في أوائل أربعينيات القرن الماضي، ونشأت وسط عائلة مثقفة وميسورة، غذّتْ ورعت تلك الموهبة التي برزت منذ الطفولة، وسُرعان ما نمت واكتملت في شخصية فنانة لا يعرف عطاؤها حدوداً.
والدتها التي كانت ذوّاقة للأدب الغربي والعربي على حدٍّ سواء، ربّتها على أعمال شكسبير، وبودلير، ومارك توين، وطه حسين، وجبران.. إلخ. الأمر الذي ترك آثاره الواضحة على شخصية هذه الفنانة التي راحت، إلى جانب الرسم، تكتب الشعر والقصة القصيرة.
درست ليلى نصير الفنون في مصر، وتخرجت من كلية الفنون في أوائل ستينيات القرن المنصرم، ولمع اسمها إلى جانب فنانين كبار من أبناء جيلها، تركوا بصماتهم في المشهد التشكيلي السوري والعربي أمثال: نذير نبعة، وخالد المز، ولؤي كيالي، وإذا كانت قد مارست النحت في بدايات تجربتها، إلا أن قوة رسوماتها وخطوطها بقلم الرصاص دفعت أساتذتها إلى نصيحتها بالاختصاص في مجال التصوير، لا سيما وأن الألوان كانت وما تزال شغفها الدائم.
تأثّرت ليلى نصير بموتيفات الفنون المصرية والسورية القديمة وأساطيرهما التي تبدّت في رسوماتها رمزاً للخصوبة العشتارية الدائمة.
يمكن أن يتلمّس المتلقي من خلال شفافية ألوانها، إحساسها الطاغي بالأمومة، وفيض حنانها، وذلك على الرغم من أنها لم تتزوج، ولم تنجب لظروف - كما تقول - عاكستها، الأمر الذي دفعها إلى البحث عن الأطفال المشردين، أو الأحداث في مؤسساتهم وعن الأطفال المكفوفين أو المعوقين، حيث رسمت الأطفال: بائعي الجرائد، واليانصيب، وماسحي الأحذية، ممن اعتبرت وجودهم في الحال الذي هم عليه: (عار على جبين المجتمع)، كذلك كانت المرأة الحامل هاجس لوحاتها الدائم، وهي ترى أن معاناة المرأة في الحمل والولادة هي معاناة مضاعفة، لا سيما مع انتشار الأمية، والمفاهيم البالية التي تكرّس مفهوماً مشوهاً للرجولة، مرتبطاً بالقسوة والتسلّط تجاه المرأة.
تبرز آثار الآلام الداخلية، والانكسارات واضحة في لوحات نصير، من خلال التعبيرات التي تنعكس على صفحة الوجوه التي ترسمها، ويمكن القول: إنها من أكثر الفنانات السوريات، وأكثرهن قدرة على إبراز ملامح الألم الداخلي بلغة تعبيرية مؤثرة، وفي هذا السياق تقول: (أرسم المشردين من الذاكرة البصرية، فالوجوه المتعبة في لوحاتي، مستوحاة من زحمة الباصات وقت الظهيرة، ومن جموع العمّال الذين هدهم التعب).
يُطلق على ليلى نصير لقب (فنانة التجربة)، لأنها من القلائل الذين يعايشون موضوعاتهم عن قرب، فهي تتحسس آلام شخوصها، ومن ثم تعيد إنتاجها إبداعياً، عايشت عن قرب عاملات التبغ في لبنان، ورسمت وجوه الصيادين في صيدا، ومثل هذه الملامسة أثّرت كثيراً في اتجاهها التعبيري الذي ترسّخ مع تطور التجربة.
تجاربها في رسم الوجوه بقلم الرصاص، المعبّرة عن الألم الداخلي واحدة من سمات فنها الذي انتقل من الواقعية غير المباشرة إلى التعبيرية ثم وصل أخيراً إلى الواقعية الحديثة، حيث التلخيص في الخط واللون هو أحد أهم الصفات التي شكلت خصوصية عملها الفن، الذي راحت توشحه في الفترة الأخيرة بشيء من التجريد، لتصل إلى نوعٍ من التوازن بين متطلباتها الفنية من جهة، وذائقة الجمهور من جهة أخرى الذي ما يزال على حدِّ قولها: (يهوى الواقعية، والكلاسيكية في الفن).
حول مختبرها الإبداعي، والمراحل التي يمر بها عملها الفني حتى لحظة الولادة تقول الفنانة ليلى نصير: (أعيش في البداية حالة تأملية، أستعيد خلالها ما تراكم في الذاكرة من صور بصرية، أنقلها إلى الورق على شكل (اسكتشات) خطية، ثم أعالج الموضوع بمساحات لونية، أي يمر العمل الفني في عدة مراحل إلى أن يصل إلى التكوين الفني له، ثم أنتقل إلى العمل على سطح اللوحة، وأثناء ذلك قد أضيف، وقد أحذف بعض الخطوط، أو الألوان، وقد أختصر، لأن العملية الفنية تًصبح حينئذٍ حسّية وانفعالية. أي يبدأ العمل بدراسة يتحكم بها العقل والإدراك، ثم أُطلق العنان إلى أحاسيسي التي هي نتاج تراكم الخبرة والتجارب الطويلة، وهكذا ينشأ نوعٌ من الحوار بيني وبين العمل الفني، بعد أن أكون قد تحرّرت من كل ما يعيق اندفاعاتي).
يمكن ملاحظة التأثيرات الشعرية على الأعمال الفنية لنصير من خلال اهتمامها بتوزيع المساحات اللونية وشفافيتها، أو من خلال جمال الخطوط والتوازن الذي يوحي بنوعٍ من السكون والحركة في آنٍ معاً.