يتبادر إلى الذهن ما يردده كثير من الناس -بالذات المختصين منهم- أن الطفل العربي يتمتع منذ ولادته وحتى سن معينة بذكاء حاد نابه لمَّاح، غير أن هذا الذكاء يتضاءل في مرحلة أخرى من عمره، أي أنه يفقد هذه القدرة عند بلوغه هذه السن. وإن افترضنا أن هذا من حقائق الطفل العربي، فالسؤال الافتراضي لماذا تحدث مثل هذه النهاية؟ وفي محاولة لاستجلاء الأمر نشير إلى ما يأتي:
أولاً: أن الصحيح، وانسجاماً مع هذا السياق، فالطفل العربي لا ينتهي به المطاف إلى حالة من الغباء، على افتراض أن هذا الاستنتاج بكامله صحيح حول ذكاء الطفل العربي وما ينتهي إليه. قد يتدنى ذكاؤه، يقل مستواه، إلا أن الغباء ليس البديل المحتمل.
ثانياً: أن التربية سواء في داره وبين أهله أو مدرسته وكذلك مجتمعه، وهم المعنيون برعاية الطفل في ذكائه ونموه النفسي والأخلاقي، قد تتناقض إن لم تكن مختلفة بعضها عن البعض الآخر، والتي من خلالها يتلقى الطفل ما يؤثر على النمو النفسي والذهني سلباً وإن كان بقصد أن يكون سوياً ومبشراً.
وبناء عليه أقترح أن تتولى جهة كريمة تبني إصدار كتاب إرشادي بهدف وحدة المنهاج التربوي بترابط متجانس قدر الإمكان، وأن يعده أخصائيون في علم النفس والطب النفسي، ويشترك معهم نخبة من الأخصائيين في علم الاجتماع كمرشد ومرجع للأسرة والمدرسة وكل طبقات المجتمع، وأن يتفرع عنه -أي هذا الكتاب- كتاب آخر للطفل نفسه والسعي الحثيث بوسائل ميسرة يتأكد معها انتشار هذه الثقافة سواء بين أفراد الأسرة أو المدرسة أو على مستوى المجتمع بأسره. وفي هذا ما يحقق وحدة الفهم بوعي يختزل الازدواجية أو بعضاً من التناقض في التوجيه بشكل عام.
ومن أجل الإقبال عليه واستيعابه واستقراره أسرياً واجتماعياً، وفي المدرسة وبين الأطفال، فلا بد من جهد إعلامي وشيء من الحوافز التي قد يقترحها من سيقوم بإعداد مثل هذا الكتاب التربوي بالغ الأهمية.
وغني عن التأكيد أن أطفالنا ومستقبلهم مستقبل لأوطانهم، إنهم يستحقون مثل هذا الاهتمام، وهي اللفتة الأساس في مراحل نموهم. وكلنا يحيط بأن السنوات المبكرة من عمر الطفل التي لا تتجاوز السنوات الخمس إلى السبع من أعمارهم هي السنوات التي يتقبل معها الطفل الأساس من بناء وعيه النفسي والعقلي والأخلاقي، أي أنها بصمة العمر على امتداد سنوات العمر. وعلى هذا الأساس فإن وحدة ما يتلقاه الطفل من توجيه أو تشابه على الأقل سيكون الأسلوب الأمثل الذي لا تناقض معه حيث يمكّن الطفل من بناء نفسي وعقلي وأخلاقي يحد من الازدواجية، ويؤكد سلامة التلقي ووحدته.
ومن أبسط الأمثلة على هذا أن يرى أهل الطفل أن أمراً من الأمور يمثل شيئاً يقولون عنه (عيب)، ويتلقى توجيهاً مختلفاً يتناقض مع هذا في المدرسة أو المجتمع. وحبذا أن نستعيض عن مفردة (عيب) وما هو عكسها بكلمة نافع أو ضار. وهذا ينطبق على غير ذلك من مفردات التربية الأخرى التي تحتمل مثل هذه المفردات. فكلمة عيب وإن كانت رمزاً لشيء لا نوده في سلوك ومفهوم أطفالنا إلا أنها غير واضحة التفاصيل، وتختصر من معاني التربية السوية الكثير، ولاسيما إذا قسنا هذا بوعي الطفل ما دون السابعة من عمره.
وعلى هامش هذا أذكر القصة التالية التي قال بها أحد رجال الحياة وتلاميذها، وكان في قصته يؤكد أن الطفل حتى وإن لم يفهم تفاصيل حدث ما فإنه يختزنه في ذاكرته. وأعطى مثالاً على هذا من نفسه حيث كان آنذاك في الثالثة من عمره، وكان يرويها وعمره قد قارب الثمانين، وكيف أن الحادثة تؤلمه حتى الآن، ويتذكر تفاصيل الحدث بكامله، وكان يحذر من أن نقول شيئاً نتصور أن الطفل لا يفهمه، أو نفعل عملاً لا نود أن يراه، فهو يحذر من ذلك حيث يختزن الطفل في ذاكرته الحدث ويفسره في مراحل أخرى من عمره. ولثقتي بهذه الرواية فإني آذن لنفسي بإشراك القراء الأكارم في استنتاج العبرة من مضمونها لاسيما أن من يرويها ناصح مجرب أصابه الحدثُ في شخصه. كما أن تراكم التجارب بمزيد من الخبرة مرجع يحسن أن لا نتجاوزه إلا بعد استيعابه وإجماع الأغلبية على الرفض أو القبول حيث تكثر الاجتهادات حول الطفل والتربية. وفي تضافر جهد العلماء والبحوث الأمل والرجاء.