(1)
** في أثناء الدراسة الثانوية بالمعاهد العلميّة، كنّا من المجموعات التي أدخلوا في مناهجها الدراسية مقررات (الكيمياء والفيزياء والأحياء والجبر وحساب المثلثات والهندسة - قبل الرياضيات
الحديثة -، ومواد أخرى في التربية وعلم النفس وعلم الاجتماع)، ورغم العبء الكبير كنا مسرورين أن نعرف كيف نجمع (س + ص)، وكيف نضيف الأوكسجين إلى الهيدروجين فينتج الماء، وظننا - يوماً - أن دائرتنا لن تتجاوز (علي الجارم والجلالين وابن مالك وابن عقيل -رحمهم الله-)، فإذا بنا نتعامل مع (فيثاغورس وآينيشتاين والبروتونات والنيوترونات).
** وافق بعضُها ميولاً ذاتية، وبعضها رغبةٌ في الخروج عن النمط؛ فالحياة أكثر امتداداً من البحر الطويل، وتعقيداً من (الواسطية والحمويّة والمسألة الحمارية).
** سعدنا أن يكسر القمقُم داخل مؤسسة تقليدية محافظة اتخذت قرارا كبيراً، ورأينا أشكالا جديدة للمعلمين لا يلتزمون بلبس الغترة دون عقال، وتزاملوا مع مشايخنا الذين أخذنا عنهم المواد الشرعية والعربية، فأحيت الصورةُ الجديدة مزيداً من الأسئلة المشروعة التي ما تزال مشرعة.
** أدركنا أن الكون ليس نظرية مجردة تدورُ في فلك التراث، وكنا وظللنا مؤمنين أن التراث كذلك تكوين صلب نقف عليه فهو الجذور، أما الأوراق فلا بأس إن كانت حمراء أو زرقاء فليست الدنيا كلها خضراء.
** لم تطل التجربة طويلا، وانتصر الاتجاهُ الآخر، وعادت المعاهد إلى إغلاقها، وآمنا أننا جيل له شيء من الحظ أو الحظوة؛ ثم قرأنا -مؤخراً- عن تخصيص ساعات للمواد العلميّة والتربية البدنية والفنية في المعاهد، وإنشاء كلية للعلوم وأخرى للطب في جامعة الإمام، ولو استمرت التجربة التي عشناها لربما كان التحول أكبر مثلما هو أسرع.
(2)
** الحكايةُ تشير إلى ما يصنعُه (التفكير الافتراضي) من تحولات إيجابية وسلبية في النسيج الإنساني؛ فمن قرر التغيير افترض التطوير، ومن قرّر النكوص افترض المحافظة، ومن عاد إلى ما باد افترض الضرورة.
** (الافتراضية) علم خارج احتمالات علم الإحصاء؛ وحين درسنا الكيمياء في المعهد كنا نجري التجارب في المدرسة الثانوية، وقد نتعرض لمخاطر عدم الدقة والإعداد، غير أن أولادنا - اليوم - يستطعيون إجراء ما يُشاء لهم بكل أمان عن طريق تجارب المعامل الافتراضية virtual labs، وبإمكانهم صنعُ قنبلة وتفجيرهُا وهم يبتسمون ويتعلمون.
** هكذا تتحول الفرضية إلى حقيقة دون أن تمر باختبار مباشر، وهكذا يعوق الوهم مثلما الفهم أقواما لا يؤمنون إلا بما يرون فيقعدون حيث الظل والسكون ويرددون: (نبني كما كانت أوائلنا).
** يغيب هنا التفكير المنطلق من إمكان تحويل الوهم إلى حقيقة، وإمكان إضاءة الحقيقة من الوهم، وصناعة شيء من لا شيء، وما يعنيه ذلك من الارتحال دون سفر، والاقتراب رغم المسافة، والانطلاق خارج الحدود والسدود.
(3)
** هل هذا حديث عن المقررات؟ بالتأكيد: لا؛ فالقضية تمسُّ (العقل المنطلق) الذي يتحول بحكم العادات والتربية والقمع من الخَلْق إلى الغَلْق، ومن الابتكار إلى الاجترار، ومن مواجهة الغد والمجهول والمفترض إلى الالتفات نحو الأمس، وتحسس الرأس، والادثار والاندثار تحت الرمس.
** بمثل هذا التفاوت ينشأ الجدل العقيم الممتد قروناً بين التجديد والتقليد، ولو أمكن لنا التجريب عبر المحاولات والمراجعات والتراجعات لكانت السلبيات أقل مما اضطرتنا إليه صراعات الأفرقاء المندفعين والمدافعين، ما شلَّ الحراك العلمي بأبعاده الفلسفية والتطبيقية.
** العالم مسكون بالكائنات والتجارب والأفكار والقيم والنظريات الافتراضية، ودورها أن تراقب وتختبر وتسأل وتجيب؛ فالإنسانُ الافتراضي لا يعيش على الهامش - كما يُتوقع- بل ينأى ليتفرج ويفكر ويقرر ويقول دون أن يخشى على نفسه الدخول في المعترك الصعب المخصص لمن يقبلُ الهزيمة العلنيّة المرة، والعمر الافتراضي منطقة لا تتجاوزُ المنطق، وإذا صعب تطبيقها على البشر فإنها تقود الدراسات حولهم، مثلما تقرِّر الحقائق حول غيرهم، وهكذا تبقى (الفرضية) احتمالاً قابلاً للتصديق والتكذيب دون أن يمنعها ذلك من تصدر الأبحاث الأكاديمية سعياً نحو النفي أو الإثبات.
(4)
** العقل - في تعريفاته الفلسفية - منهج يعتمد التناسق مثلما التنسيق بين عناصر الكون في أُطرها المعرفية المجردة والأخلاقية النسبية وصولاً إلى المغامرة والاكتشاف والدخول في مناطق المجهول دون حسابات أو مقدمات ما دام الشرط التجريبي قابلاً للتطبيق على سبيل الحقيقة أو الافتراض.
** ولو عدنا إلى إرهاصات النهضة الأوربية في القرن السادس عشر لرأينا رفضاً للتجربة اعتماداً على نظريات الفلسفة المدرسية التقليدية التي تعتقد أن الناتج سواء أجاء متفقاً أم مختلفاً هو إضاعة جهد في الأولى، أو تصادم مع السائد في الثانية يقود إلى الضلال.
** هل لهذا دلالةٌ في واقعنا ؟ بالتأكيد؛ فنحن نعيش -رغم الفارق- في حقبةٍ منطفئة يراد لها أن تُحكم الرتاج كيلا ينفذ الهواء ويتحكم الهوى، ولو فتح الباب قليلا لحدث تغيير إيجابي أو سلبي ليس من مهمة الرؤى الاستراتيجية ضمانها، بل مراقبتها، وإعادة إجراء التجربة بمعطيات أخرى إلى أن يفتح درب يقود إلى دروب.
** لا نحتاج إلى إثبات صدقية هذا الكلام، بدليل أن أكثر الناس إيماناً (أن ليس في الإمكان) يمارس التجربة - بكل زواياها - حين يتصل الأمر بأبعاد اقتصادية واستثمارية تمس شؤونه الخاصة، ويطالب المشرِّعين بالتغيير والتطوير لما يخدم أهدافه الدنيوية المباشرة.
** وقد نرى -كما يرى باحثون كثيرون- أن النظريات الأبستمولوجية (المعرفية) مرتبطة بالبيئة المنتجة لها دون أن يعني ذلك عزلها عن شروط البيئات الأخرى نأت أم دنت.
(5)
** الفرق بين العقل المنفتح والمنغلق قدرة الأول على التصديق وثقته بالتجريب وعدم خوفه من الفشل والتراجع، في حين يُغلب الثاني نظرية المؤامرة، ويخشى المغامرة، ويجعل من الإخفاق منطلقاً للاستدلال على عبثيّة تجاوز النمط السائد، وربما بالغ بعضهم بالشماتة والتحريض والاستنفار.
** غيرت (المعاهد) مقرراتها قبل أكثر من ثلاثين عاماً وتراجعت ثم عادت الآن، والناتجُ إحراق الوقت وتأجيل المنجز.
** العقل -فيما لا يتعارض مع ثوابت النقل المجمع عليه- يفترض أن نجرب ونجدد، ونفترض وننطلق، ونخطئ ونصيب، ولا يتم هذا إلا إذا رفضت الوصاية، وحُيِّد الأوصياء.
** تتجاوز الأمم منعطفات تاريخيّة أو تقفُ دونها؛ فالخوفُ مما وراء المنعطف وقوف في نقطةِ حرجة تقود إلى الازدحام والاصطدام والإعتام، وهو ما نشهده في التجاذبات الفكرية التي تعايشها الأمة منذ قرون، أما الانطلاقُ فحياةٌ ككل الحيوات تتعرض لانتكاس لكنها تتحرك إلى الأمام؛ فتجد فضاءاتٍ أرحب، وتمارس الفعل الإنساني في الاكتشاف والتجريب، وهو ما قاد أمماً نحو المقدمة، وأبقى سواها حيث ما تزال تنظر وتنتظر.
* التجريب لا يخيف.
E:Mail:IBRTURKIA@Hotmail.com