تردد البنان لأخذ المداد، كي يُعبر عما في الفؤاد، وبما أني لست بشاعر، قلت لا بد من نثر المشاعر والحال: |
كأنّه كاتبٌ عزّ المداد له |
أراد يكتبُ لاماً فابتدا ألفا |
وأنبني الضمير فما استطعت ردّه، ولم أطق صدّه، يقول أين صدق المودّة، أتخشى عيب قولك أو نقده، فانطلق القلب يملي، والمشاعر تغلي، والحال: |
كتبت وعندي من فراقك لوعة |
تزيد بكائي أو تقل هجوعي |
أخط وداعي الشوق يملي، وكلما |
تعديت سطراً رملته دموعي |
عن والد عالم حنون، حين أدركته المنون، في يوم عصيب، بكاه البعيد والقريب، وعيني تجود بالدمع الصبيب، على أعز وأغلى حبيب. ولسان حالي: |
لا تسل عن رجعتي كيف كانت |
إن يوم البين يوم عصيب |
إنه الوالد (الشيخ صالح المنصور)، العالم المشهور، عرفه الأمير والمأمور، الورع الشاكر الصبور، بكل همة تعلّم، ثم دعا وعلّم، وفي علم الأصول وغيره ألّف، وحقق وصنف، وقرط الأسماع بخطبه وشنف، الخطيب البارع، الفقيه الساطع، يرتجل الخطب، ويثير العجب، قوة في الطرح والإلقاء، ينتقي خطبه أحسن انتقاء، فأبلى فيها خير بلاء، مع ما لقيه من المرض والعناء، ويردد نصح الأمة، الاعتصام بالكتاب والسنة، ويؤكد دوما على العقيدة والتوحيد، بطرح قوي سديد ويحذر من الكفر والشرك ومن النفاق والشك، مرتلاً في ذلك الآيات وسارداً الأحاديث والروايات، أسس فرع جامعة الإمام بالقصيم، ثم فاضت بالعلم والهدى والخير العميم، وتخرج بها المشايخ والعلماء، والمحدثون والفقهاء، فكانت تلك إحدى حسناته، وقضى فيها جل حياته. |
نم وحسب الأجيال بعدك ما أذكيت من شعلة لغير خمود |
وما فتئ يعتلي المنابر، بمنهج السلف الغابر، حتى حل به المرض إلا أنه عده كالعرض، فلم يقعده عن خطبه، ولا عن مطالعة كتبه، ولاداء ينهش في جمسه، ويأخذ من شحمه ولحمه، فلم يزل يقاوم ويصابر ويوجه ويثابر، حتى نخر الداء جسمه وأنهكه، فأقعده على الفراش وأمسكه ملتمسا لدائه الدواء المصيب فلم يصب دواءه في البلاد طبيب واستمر بعدها طريح الفراش وبات جسمه بخفة الفراش، فاضطره إلى الصلاة وهو قاعد، فأتعبه النفس النازل والصاعد، فصلى على ظهره مستلقياً، ووجهه الى الأعلى مولياً، يدعو ربه بالشفاء العاجل، ويطلبه أعلى المنازل، ولسانه عن ذكره لم يفتر، يهلل ويسبح ويكبر، وكانت جل أمنيته، قبل أن تأتيه منيته، أن يصح جسمه ويطيب، ليعود ذلك الخطيب، لله درك ما أروعها من همة! لعل الله أن يوصلك بها إلى القمة، ومن مع الله صدق، حقق المولى مناه ولو في آخر رمق، فلما قرب الرحيل، ولم يبق منه إلا القليل، أي قبل يومين من وفاته، أحس بنهاية حياته، فأطلق العنان للسان، بصوت واضح البيان، يردد بصدق: (أحسنت بالله الظن)، فلم يشك أو يتألم أو يئن، وكثف بعدها التكبير والتهليل والتسبيح، وكل من حوله يدعو ويصيح، عرفوا قرب الفراق، وأعلن حضور الرفاق، فقال: افسحوا لهم، قيل: من هم؟ قال: من سأسافر معهم!! لعلهم ملائكة الرحمن يبشرون، (لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون) بعدها جاءت البشائر، فاسمعوا ذوي البصائر! قال: إني أرى الجنة، يا الله أكرم بها من منة! نُقل إلى المستشفى على الفور، والمرض ينهشه من طور إلى طور، محمولا على السرير، مردداً التحميد والتهليل والتكبير، فشرع في إلقاء الخطبة، يوجهها لمن حوله من عصبة، موضوعها التوحيد والاعتصام، والتحذير من الدخان والمخدر السام، شعاره (واعتصموا) وتوحدوا (ولا تفرقوا)، خطبة ليست بالقصيرة، مردداً (قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة) كأنه على منبر، يحذر وينذر، ويدعو الإنس والجن إلى الدين، ويردد (سبحان الله وما أنا من المشركين) ما أروع تلك الكلمات! كلمات نيرات عاطرات! أدخل بعدها العناية، وعناية الله خير عناية، وفاضت فيها الروح، واستراح من آلامه والجروح، بهمة علياء ووجه صبيح، فقلبي بعده ولع قريح ولكن: |
لعلّ تحدّر الدمع السفوح |
يسكن لوعة القلب القريح |
مات محللاً كل إنسان على الأرض، مقبلاً على ربه متصدقاً بالعرض، تمنيت - حين الصلاة عليك - إني مكانك، فاسأل الله أن يعلي شانك، فصلى عليك الجم الغفير، وحضر مشهدك الأمير، وشيّعك الخلق الكثير، وحين ووريت الثرى، أبكيت بعدك الورى. |
ومن الدليل على مكانك في العلا |
أن كان جمع صلاته لك مجمعا |
ما أصعب العيش بعدك، حيث لم نعتد فقدك، فهذا مكانك في البيت خاليا، ومشهدك في الذهن باقيا. والحال: |
لئن كنت أخليت المكان الذي أرى |
فهيهات أن يخلو مكانك من قلبي |
فالله المستعان، وعليه التكلان، وقدس المولى روحك في عليين، وجمعك بالنبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، آمين، آمين، آمين. |
لو وجدنا على الفراق سبيلا |
لأذقنا الفراق طعم الفراق |
*المعهد العالي للقضاء |
|