كان الملك عبدالعزيز -طيب الله ثراه- من أكثر الزعماء في عهده محاربة للتدخين، وقد كان عليه رحمة الله صارماً في سياسته تجاه التبغ ومثلما كان يحمل هم القضية داخل حدود وطنه كان يحمل همها في كل البلدان الإسلامية والعربية الشقيقة والمجاورة، وما غرسه الملك عبدالعزيز في مجال محاربة التبغ نتمنى أن يكون ديدنا لمن بعده من أبنائه الملوك ومسئولي الدولة.
وقد استعرض مؤلف كتاب شبه الجزيرة العربية خيرالدين الزركلي خلال سرده لتاريخ الجزيرة جانباً من حوار شيق جرى بين الملك عبدالعزيز وطلعت حرب باشا، حيث يبدأ المؤلف في سرد ما دار بينهما قائلاً: ذهبت، وأنا في مصر، مع بعض الأصدقاء، للسلام على طلعت حرب (باشا) بعد عودته من زيارته الأولى للمملكة، سنة 1354هـ (1935م) أو حولها. من حديثه عن عبدالعزيز أنه سأله عما يقال من تحريم شرب الدخان في المملكة؟
فقال الملك: بكم يدخن أفقر إنسان عندكم يومياً؟
طلعت: بقرشين.
الملك: كم عدد الذين يدخنون، على أقل تقدير؟
- طلعت: خمسة في المئة.
- الملك: كم تخمّن عدد سكان بلادنا؟
- طلعت: حوالي خمسة ملايين.
- الملك: إذا لم ننظر إلى ناحية التحليل والتحريم، وأبيح التدخين، فكم ينفق المدخنون عندنا على هذا القياس؟
قال طلعت: فأخذت قلماً، وعملت الحساب فوجدت أن عدد المدخنين سيكون 250 ألف شخص، ينفقون خمسة آلاف جنيه في اليوم.
فقال الملك: ما عندنا دخان، ولا ورق للدخان ولا شيء من آلاته.. كله يأتي من الخارج.. تريد أن نرسل، مع فقرنا، خمسة آلاف جنيه، هدية إلى الخارج كل يوم، مقابل ما ننفخه في الهواء؟
قال طلعت، وهو يحدثنا: في الناس من يقول إن لي شيئاً من العلم بالاقتصاد ووالله لقد كان صاحبكم أعلم به مني. وأُلجم لساني فما نطقت بحرف.
تبغ وغلايين:
وقال فلبي (في كتابه قلب البلاد العربية) كنت أنا ورفيقاي ندخن ذات ليلة (وكانا مثلي ضيفين في القصر) إذ دخل علينا (عبد) يعلمنا بقدوم الشيوخ. وكانت الغلايين وعلب التبغ مبعثرة على الديوان، فخبأناها مسرعين وفتحنا الشبابيك كلها. إلا أنه عندما دخل السلطان كان الدخان لا يزال منتشراً في الغرفة. فجلس. وجاء أحد العبيد توّاً بالمجمرة، وفيها الطيب، فقدّمها إليه، ودار بها علينا مراراً. ثم تركها على السجادة في وسط القاعة تطهيراً للهواء.
ومع أن دخان الغلايين كان أكره شيء لدى السلطان، فقد تجاهل ما كان، وظلّ ظريفاً على عادته. ولكنها كانت زيارته الأولى لضيوفه في منزلهم، والأخيرة!
قلت: لم تكن هذه زيارته الأولى لضيوفه في منازلهم أو خيامهم ولا الأخيرة. فقد علمنا من كتب الريحاني أن عبدالعزيز كان يزوره، كما كان يزور غيره. ولكنه إذا علم أن المزور من المدخنين، أرسل قبل ذهابه إليه، من يحمل البخور لتطهير الحجرة أو الخيمة التي هو فيها.
مع الملك فيصل بن الحسين:
وعلى ذكر التدخين، أخبرني ثقة ممن حضروا اجتماع الملكين عبدالعزيز، وفيصل بن الحسين، في الطرادة (لوين) أن فيصل تضايق من الامتناع عن التدخين، في أثناء الحديث، فأستأذن من عبدالعزيز، فأجابه: اصعد إلى فوق!
وقد حمل خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز على عاتقه هذا الشعار حيث تم في عهده أيده الله شعار مكة والمدينة خاليتين من التبغ، وتم تأسيس لجنة وطنية لمحاربة التبغ بقرار من مجلس الوزراء، وتبنت وزارة الصحة في عهده الميمون أول قضية من نوعها على مستوى العالم ضد شركات التبغ، وبناء على ما سبق تم تكريمه من قبل منظمة الصحة العالمية بدرع وجائزة المنظمة في محاربة التبغ للعام 2007م وما زالت برامج المكافحة والتوعية في المملكة تنتظر منه المزيد خلال الفترة المقبلة من أجل الحفاظ على ثروات هذا الوطن الغالي المادية والاقتصادية والبشرية، إن ما ظلت تتحمله المملكة من انعكاسات وأضرار لآفة التبغ يتطلب المزيد من الجهود والعمل على تحجيمه وحصر ما يحدثه من أضرار والتي تتمثل في جوانب عدة، منها حجم الإنفاق على علاج مرضى التدخين والذي يقدر سنوياً بحسب وزارة الصحة بخمسة مليارات ريال، حوادث الحريق التي تقدر سنويا بحسب الإدارة العامة للدفاع المدني بأكثر من 2500 حادث حريق، إضافة إلى وارداته التي تقدر سنوياً بقرابة الملياري ريال غير الكميات المهربة، وهناك ما ينفق على برامج المكافحة والتوعية، إضافة إلى الخسائر الأخرى المباشرة وغير المباشرة والأكبر من ذلك هو حجم الخسائر البشرية والذي أعلنه المكتب التنفيذي لمجلس وزراء الصحة لدول مجلس التعاون عن وفاة 12 ألف سعودي سنوياً بسبب أمراض لها علاقة مباشرة بالتدخين والتي قد تزيد في ظل زيادة عدد الداخلين من المراهقين في عالم التدخين في ظل غياب البرامج التوعوية المتكاملة أو ضعفها وعدم وجود خطة إستراتيجية موحدة تضطلع بها الجهات المعنية بالشباب مثل وزارة التربية والتعليم والرئاسة العامة لرعاية الشباب ووزارة الثقافة والإعلام ووزارة الشئون الاجتماعية، فالأمر مفزع وخصوصاً ما يتعلق بإقبال المراهقين والأحداث على تعاطي التدخين مما سيحدث عنه انفلات أخلاقي يمهد الطريق إلى مشكلات اجتماعية أكثر تعقيداً، ومن ذلك التوجه إلى تعاطي المخدرات.
وتشير الدراسات التي أعدتها الجمعية الخيرية لمكافحة التدخين في فترة سابقة أن 90% ممن يتعاطون المخدرات تعاطوا قبلها التدخين الذي مهد لهم الطريق إليها وبالإشارة إلى كل ذلك فإن قضية التدخين تعتبر من القضايا ذات التأثيرات السلبية المتعددة والتعامل معها يحتاج لخطط وإستراتيجيات أكثر بكثير من المتاحة الآن.
سليمان الصبي
الأمين العام للجمعية الخيرية لمكافحة التدخين