المشهد اليومي.. عيون الصغار والمراهقين تتأرجح في سرعة فائقة تتبع حركة اللعبة الإلكترونية التي يحتضنونها بين أيديهم، سواء كانوا في السيارة أو في الاستراحة أو في غرفة العائلة وعند زيارة بيت الوالدين..!
نحن محاطون بشبكة تكنولوجية مرعبة بدءاً بالتلفزيون وأجهزة الاستقبال الفضائية وال(دي في دي) والجوال والأي بات والميموري ستيك أو قد تسمى الفلاش ميموري، وعشرات المنتجات التي لا تتوقف المصانع اليابانية عن قذفنا بها، بل إن عمر السلعة فوق أرفف المتاجر في ذلك البلد العظيم لا تتجاوز ثلاثة أشهر مما يعني - ببساطة- تدفقا غير مسبوق للتكنولوجيا وللمعرفة لن يتمكن البشر من السيطرة عليه.
وحتى نتصور حجم ما يحيط بنا من هذه المعرفة لنأخذ صناعة الكتاب في الولايات المتحدة والتي قدر عام 2004 أن المرء حتى يتمكن من تغطية الكتب المطبوعة فيها لابد أن يقرأ كتاباً كل ثمان دقائق ودون توقف طوال السنة، كما عليه أن يهمل تماما الستة والستين مليون عنوان التي طبعت في باقي أنحاء العالم لتلك السنة. هذا فقط في ما يختص بالكتب المطبوعة، ولك أن تتخيل باقي مصادر المعرفة الإلكترونية والمرئية والمطبوعة وخلافه.وفي دراسة قامت بإعداها مؤسسة كايزر على استخدامات الصغار والشباب من سن 8-18 لوسائل الميديا المختلفة ونشر عام 2005 وجد أن أكثر من نصف المراهقين في الولايات المتحدة وعلى اختلاف خلفياتهم يقضون ست ساعات ونصف كل يوم في التعامل مع مختلف أجهزة الميديا (إنترنت، تلفزيون، جوال، دي في دي، أي بوت وخلافه) كما أنهم يقومون باستخدام أكثر من وسيلة في وقت واحد (سماع موسيقي، استخدام النت، خلق مواد بوسائط متعددة ونشرها على الويب.. إلخ).
إلى جانب ذلك وجد أن الأطفال الذين تواجدت أجهزة التلفزيون والكمبيوتر في غرف نومهم يقضون ساعات أطول في استخدام هذه الأجهزة، ووجد أن الأهالي رغم شكواهم من قضاء أبنائهم وقتاً طويلاً على هذه الاستخدامات لم يفعلوا شيئاً تجاه تعديل ذلك، فكما أشار الأبناء يبقى التلفزيون مضاءً في غرفة المعيشة وُجِد أحد أم لم يوجد، ولم يعمل الوالدان على تخصيص وقت محدد خلال اليوم لاستخدامات الميديا مقابل الأنشطة الأخرى من قراءة ورياضة مما يعني انغماسا إضافياً من هذا الجيل لاستخدامات أجهزة الاتصال الحديثة.
هل يذكركم هذا بشيء ؟... إنه هذا الطفل السعودي الصغير الملقى أمام جهاز السوني لساعات، وهي هذه المراهقة التي لا تكف عن حمل (اللاب توب) أينما ذهبت، وهو هذا المراهق الذي يحضر البلاي ستيشن أو أية أجهزة ألعاب خفيفة حتى في عزائم العائلة، ويغرق في جهازه دون شعور بالآخرين؛ فمفردات عالمهم مختلفة وهم معنا وليسوا فعلا معنا.. ونحن نعتقد مخلصين أننا نبذل كل الجهد والوقت والمال لرعايتهم، لكن ما هي القواسم المشتركة التي تربطنا؟
لا توجد دراسات دقيقة على استخدام الجيل السعودي الحديث لوسائل الملتي ميديا- كما تسمى- لكنني أجزم أنها ستفوق النسب الأمريكية بمراحل.. فمن المريح لنا كأمهات أن يبقى الأطفال وخاصة الأولاد الأشقياء منهم مسمرين أمام شاشات السوني في غرفهم أو غرف المعيشة دون أن يسببوا احتكاكات مع الإخوة أو يكثروا من طلباتهم وشكواهم، وهكذا نضمن سلامتهم الجسدية ونخسر سلامتهم العقلية والنفسية؛ فهم لا يتفاعلون وهم لا يستخدمون مفرداتهم اللغوية بشكل صحيح أو مستمر، كما أن أجسادهم لا تتحرك وهو ما يفسر نسب السمنة المرعبة بين الأطفال الخليجيين والسعوديين على وجه الخصوص (بجانب عوامل أخرى بالطبع مثل تغير نوع الغذاء المستخدم في المطبخ السعودي والمواد الداخلة في تصنيعه وانتشار مرض الأطعمة السريعة) إضافة إلى الكم الهائل من قيم العنف ومفردات الجنس والقبح التي تتسلل عبر الألعاب الإلكترونية دون وعينا بنوع الألعاب ودرجة مناسبتها لسن الطفل الذي يستخدمها، وكلها أمور واضحة في الغرب يضع القانون لها أهمية كبيرة لحماية الأطفال، لكننا هنا وبسبب ضعف اللغة الانجليزية لدى الوالدين أو الراعين للطفل أينما كانوا، وبسبب عدم وجود قوانين ضابطة نجد أن اللعبة التي لا يحق إلا لابن الثامنة عشرة استخدامها - كما هو مبين على اللعبة- وبفعل كود محدد نجد أن اللعبة نفسها مستخدمة من قبل طفل الخامسة.
في ذات الوقت.. يتسرب صغارنا من أيدينا ويكبرون دون أن نقضي معهم وقتا حقيقا.. لا توجد مثلا هوايات نمارسها مع بعض، نحن وأطفالنا، كما نحب أن نتخيل، كما أننا نقضي وقت العائلة في إجازات الأسبوع كل في شطره؛ فالرجال في القسم الخاص بالرجال والنساء والأطفال في القسم الأسوأ من الاستراحة - كما جرت العادة - (كل المفردات ذات تعريف ذكوري عجيب وتتصدر ملامح الممارسة الاجتماعية حتى من البسطاء).
التلفزيون يبقي مضاءً في غرف المعيشة، وجِد أحدٌ أم لم يوجد، ولك أن تتصور حياة السعودي من غير تلفزيون أو جوال! ولذا تتضاءل مفردات الحوار في العائلة السعودية ويغرق كلٌّ في جهازه.. ونتساءل في قلق: لماذا يحدث للأبناء ما يحدث؟!
تكاد الواجبات الاجتماعية تلتهم 60% من وقت معظمنا، ويأخذ العمل ما قيمته (خاصة الحكومي منه) 30%.. وما الذي يبقي للمنزل وللطفل وللمراهقة ولليافع.. بقايا سرقات الوقت المقتطع من هنا وهناك، لكن لا أوقات حقيقة أو ما يسمى فى اللغة الإنجليزية (Quality Time) نقضيها؛ لأننا نستمتع بذلك قدر ماهو واجب علينا أن ندبره أو نصرف عليه أو نتخذ قراراً بشأنه، لكن ما هي الأنشطة الرياضية أو التشكيلية أو التعبيرية أو الخيرية أو حتى أداء واجبات منزلية مشتركة مثل تشذيب الحديقة أو طلاء غرفة أو تصليح كراسي السفرة الممزقة أو المشاركة في إعداد طبخة.. أقصد كل الأنشطة التي تقوم بها كل العائلات في كل أنحاء العالم.. إننا لا نعرف حتى أن نتحدث مع بعضنا، وإذا حدث ذلك فسنتصارع على الأفكار ومراكز القوى! داء المجتمعات النامية وهي في حالة التغير الاجتماعي. وأسألكم في قلق: أين ومتى حدث أن فقدنا أنفسنا ومن نحب داخل أخطبوط الأجهزة والتغير..؟!