نتفق جميعاً، ونؤمن جميعاً نحن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - بأن نهايتنا الموت، وأن دار خلودنا هي الدار الآخرة، وأننا سوف نحاسَب ونساءل، ونقف بين يدي الله كل واحد منا يكلمه الله لا ترجمان بيننا وبينه - جلّ علاه -، ولكن نحزن جميعاً إذا هجم الموت على أحدنا وخطفه من بيننا، خطفه وهو على السرير الأبيض بالمستشفى مكبل بأنابيب الأطباء بعد أن كنا إلى جواره نرجو شفاءه، بعد أن كنا كل يوم ننطلق مسرعين إلى جناحه الذي يرقد فيه لكي نشاهد حالته هذا الصباح، نتابع الطبيب ونسأل الممرض، ويأتي الطبيب ويقف جواره؛ فتتغير ملامح الطبيب قبل المريض، ويعلن حالة الطوارئ، ولا نعلم ما الذي حصل، ولا نعلم ما الذي أصاب الطبيب، ولكنه يخفي شيئاً قادماً مخيفاً. ينتقل هو وسريره إلى غرفة أخرى تحيطه أجهزة أكثر دقة وأكثر متابعة، وينتهي دور الطبيب، وتبقى الأجهزة هي التي توافي الطبيب عن حالته بكل دقة، ولكن بعد لحظات يهجم الموت ويخطف الروح ويبقى الجسد. ومرةً يخطف أحدنا وهو خلف مقود سيارته يسير بالطريق لكي يلحق غرضاً دنيوياً. ومرةً يهجم علينا ونحن نحضر مناسبة اجتماعية لنشارك أحدنا مناسبته. من هنا تبدأ رحلة الحزن التي لا تستمر طويلاً لقوة إيماننا بالله، ولكنها تحرق أفئدتنا، وتبكي أعيننا، وتزيد ألمنا. عزائي لك أيتها الأخت الغالية.. عزائي لك أيتها الأم الصابرة.. عزائي لك أيتها الزوجة الملازمة لزوجها في مرضه.. عزائي لأختي أم سلطان التي فُجعت قبل أيام بفقد زوجها علي بن منصور الجهني، أحد سكان مدينة قبة، وقد أصيبت بابتلاء وصبرت لتنال الأجر، وبكت ولكنها مؤمنة، وحزنت، ولكنها مستسلمة للقضاء والقدر، وصمتت، ولكنها معتبرة، وأتيت إليها لأهدئ من روع أبنائها وبناتها، أتيت أعزيها؛ فأحزنتني بحزنها، وأدمعت عينيّ دموعها. تحاول أن تتماسك، وتتظاهر بالصبر، ولكن قوة الحزن تنتصر على مشاعرها. جيوش الحزن أقوى من قدرتها، هي الحياة - أختاه - تأتينا أكدارها وتبدد أحلامنا، وترسل أحياناً نذيرها، وأحياناً تفاجئنا، أقول لك: صبراً واحتساباً، أقول لك وأنا أشاطرك الحزن: ما مات من خلف بعده أبناء، أقول لك: أكثري من الدعاء؛ فالله يحب عبده اللحوح الذي يبكي ويوجه وجهه إليه ويردد: يا لطيف الطف بي بلطفك الخفي وأغثني بمددك الجلي. صبراً أم سلطان وأملي كبير ويكبر في أبنائه.. صبراً؛ فهو كان على خير ويُرجى له الخير.. صبراً؛ فسبيل المياه الذي أوقفه للآخرين يشفع له - إن شاء الله -.. صبراً يا مَن عانيت من مرض زوجك ما يقارب عامين، وما زلت تعانين من مرض والدك ما يقارب 8 أعوام. لقد كنت البنت البارة بأبيها التي تتصل وتسأل عنه، وتأتي إليه في الأعياد وهو أسير المرض لكي تقبل رأسه وتقترب منه.. صبراً ولن تخسري.. صبراً ولن تخيبي.. صبراً فما أجمل الصبر.. وقولي اللهم إني فوضت أمري اليك، ووجهت وجهي إليك، لا ملجأ ولا منجى منك إلا إليك. لا تحزني؛ لأن حياتنا لا تخلو من المكدرات، ولا تنهزمي لأننا نتقلب في هذه الحياة كل يوم على حال، ولا تبهرك مظاهر دنيانا، ولا تغرك زينتها؛ فهي إذا أضحكت أبكت، وإذا أسرت يوماً أحزنت أياماً. حياتنا نعيش فيها مستقلين مركبها المتهالك، وغير الآمن، الذي نستمتع بالجلوس على مقاعده، ومراراً نسأم منها؛ لأنها غير مريحة. حياتنا يا أختاه يجري خلف حطامها من يجري وهو نشيط، ولكنها تتعبه. حياتنا ننتقل فيها من وضع إلى وضع. نخطو خطواتنا كل صباح لكي نكمل ما تبقى من مشوار الأمس، ولا نعلم بأن هذه الخطوات قادتنا إلى نهايتنا الدنيوية. تغيب شمس نهارنا ولم تتوقف أقدامنا، ولم نكتف بساعات النهار بل نواصل ساعات الليل نحث خطانا، نصل إلى مبتغانا أو لا نصل؛ مرةً نتقهقر، ومرةً نندفع، ما بين مدّ وجزر، نبحث عن الأمان على شواطئ حياتنا، ولكنها غير آمنة، وموج بحرها يغرقنا ونحن على شواطئها. ننطلق لتحقيق الأمل، ولكن يعترضنا القدر ونردد: قدَّر اللهُ وما شاءَ فعل. نتمسك أكثر بخالقنا ومصرفنا، يصعد إيماننا ويتعلق بالسماء، يزيد إذا هجمت علينا الأقدار، يحمينا من الانهيار، نقول ونكثر من قول: (اللهم ارزقنا إيماناً يهون علينا مصائب الدنيا)؛ مصائبها المألوفة لدينا؛ لأنها أصابت الذين قبلنا، ولأن الله ذكرها في محكم تنزيله. مصائبها أبدية وأزلية، باقية ما بقي البشر، ومنتهية إذا انتهى البشر. نحيط أنفسنا بسياج قوي وهو الإيمان بالقضاء والقدر؛ فإذا أصابنا القضاء حمدنا الله الذي لا يحمد على مكروه سواه، هو مكروه للنفس، ولكننا نروضها عليه، ونجعلها تحمد الله على هذا المكروه. يا لها من نعمة كبيرة منَّ الله علينا بها؛ فإذا حمدناه على ما أصابنا ضاعف لنا الأجر، فأمر المؤمن كله خير، كما قال المصطفى - عليه أفضل الصلاة والتسليم -.
اللهم ارزقنا اليقين، وارزقنا الصبر والإيمان بالقضاء والقدر، اللهم ارحم من كان بيننا بالأمس، واليوم واريناه الثرى، اللهم ارحمه يوم العرض الأكبر عليك.