Al Jazirah NewsPaper Friday  02/05/2008 G Issue 13000
الجمعة 26 ربيع الثاني 1429   العدد  13000
لماذا فرنسا.. لماذا لم تكن ماليزيا؟!
د.عبدالله بن سعد العبيد

طالعتنا الأخبار مؤخراً عن توقيع المملكة ممثلة بفريق رفيع المستوى بقيادة معالي وزير التعليم العالي الدكتور عبدالعزيز العنقري لأكثر من خمسين اتفاقية تعليم وتدريب بين المملكة وجمهورية فرنسا، وإذا كان توقيع ذلك العدد المهول من الاتفاقيات التعليمية مع دولة غير ناطقة بإحدى اللغات الحية في العالم

ولا يوجد لديها في عصرنا الحديث هذا ما يشفع أو يبرر لها أن ننهل العلم منها ولا هي بالدولة الصناعية المتطوره التي يفترض أن نحذو حذوها في بناء سياسات التعليم بالمملكة، أقول إذا كان سبب توقيع جميع تلك الاتفاقيات سبباً سياساً فأدعو القارئ الكريم لعدم متابعة قراءة هذا المقال، أما إذا كان السبب غير ذلك أي أن هناك ما لم نره في تلك الدولة فعلينا أن لا ندع ذلك الخبر يمر مرور الكرام دون إلقاء نظرة تمحيصية عليه وتفنيد أسباب تلك الهرولة من ناحية علمية بحتة طالما أنه لم يخرج علينا مسؤول في حقل التعليم بالمملكة ليشرح لنا أسباب توقيع تلك الاتفاقيات وما يمكن أن تجنيه المملكة منها وأسباب اختيار فرنسا دوناً عن دول العالم الأخرى. فإن كان الأمر هو إقامة توأمة تعليمية مع الغرب تحديداً دون وجهات العالم الأخرى فما الغرض من اختيار فرنسا، وهل تمت دراسة ماذا يراد من هذه الاتفاقيات ليسهل على الأقل اختيار الدولة التي نحتاج أن نستفيد من تجاربها فإن كان الغرض التطور الصناعي فلماذا لم يتم التفكير في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وإن كان الغرض المساعدة ببناء سياسة التعليم بالمملكة من خلال تجارب حديثة أثبتت جدواها فلماذا لم يتم توجيه الأنظار إلى دول أوربا الشرقية كبيلاروسيا أو ما تسمى روسيا البيضاء التي نبغت علمياً وصناعياً مؤخراً. ولماذا أصلاً نفكر في أوربا التي لم يأت لنا منها سوى أخبار آثار ونتائج حشد النظريات التربوية وعلم النفس التربوي، بينما نحن على علم بأن شعوب كل بلد في القارة الأوربية تعلموا من النظريات التربوية أن الهدف من التربية إنشاء المواطن الذي يضع بلده فوق بلاد العالم، ويضع نفسه ومصلحته فوق مصالح البشر، فلن يلتقي الناس إلا على مصالح دنيوية يتنافسونها منافسة صراعات وحروب، يذهب ضحيتها الضعفاء والفقراء.

لا بد من وقفة لنقارن بين تربية الإسلام للطفل والكبير وبين تربية العلمانية السائدة في الغرب، لا بد أن نقارن بين النماذج البشرية التي قدمها الإسلام والنماذج البشرية التي قدمتها العلمانية، بين نماذج مدرسة النبوة الخاتمة الخالدة وبين نماذج مدارس الآخرين في الأرض.

يفترض أن يتجه الوعي التعليمي إلى تنظيم خبراته وفقا لأجندة علمية يقوم على رسمها ثلة من المختصين والمبدعين في حقول مختلفة منهجها تحديد الركائز الأولى في تنظيم المسيرة العلمية وغرضها إيجاد السبل الكفيلة بدفع النتاج المعرفي، وهدفها النجاح في تحقيق دورها الريادي في صياغة عقول متفتحة تدعو إلى احتضان المعرفة وتطوير العلم وبناء قيم الإنسان وفقا لمبادئ الحرية التي من المفترض أن يكون متمتعا بها.

إن القناعة بالدور الريادي لهذا الوعي في قيادة المجتمع وبناء أسسه المعرفية والعلمية تقود إلى مفهوم تحقيق الفكر التنويري وتسند لنفسها مهمة إيجاد الحلول للمشكلات القائمة ثم تحفيز البنية النفسية للأفراد عن طريق المشاركة في الجهد المبذول فيها.

ولكي تنهض الجهات التعليمية بدورها القيادي، عليها أن تعيد ترتيب أولوياتها ومحاولة رسم الأطر التي تسهم في استحضار العقل وعدم القول بتغييبه فضلا عن سعيها في ضم الأصالة والحداثة، قيم الموروث وقيم المعاصرة، ومد جسور الحوار العلمي والبناء بين الماضي والحاضر، وتسهم في الإنتاج العلمي العالمي الذي يأخذ بمتطلبات المصلحة العقلية والسياسية والاقتصادية، بوصفها المعبر الحقيقي عن الوعي الاجتماعي والشعبي والثقافي السائد، وهي الجسر الأساس في تحقيق الإصلاح في المجتمع المدني.

والواقع يشير أن البلدان العربية بصورة عامة تفتقر إلى سياسة علمية وتكنولوجية محددة المعالم والأهداف والوسائل وليس لدينا ما يسمى بصناعة المعلومات، ولا توجد شبكات للمعلومات وأجهزة للتنسيق بين المؤسسات والمراكز البحثية، وليس هناك صناديق متخصصة بتمويل الأبحاث والتطوير. إضافة إلى البيروقراطية والمشكلات الإدارية والتنظيمية، وإهمال التدريب المستمر سواء على الأجهزة الجديدة، أو لاستعادة المعلومات العلمية ورفع الكفاءة البحثية.

ولاشك أن البلدان العربية لديها كل الإمكانات البشرية والبنيوية والأكاديمية للتقدم فى هذا الميدان، شرط أن تمتلك الإستراتيجية الواضحة للبحث العلمي، وأن تخصص نسبة معقولة من دخلها الوطني على الإنفاق فى مجالات البحث العلمي، وأن يكون الإنفاق موجهاً بشكل خاص على البحوث القابلة للتطبيق، وإيجاد آليات تنسيق وتعاون بين رجال المال والأعمال والقطاع الخاص من جهة، ومراكز البحث العلمي والتطوير من جهة أخرى.

والمشكلة حتى أكثر خطورة من ذلك، فغالباً لا يجد الباحث طرقاً مناسبة لنشر نتيجة ما توصل إليه حتى في بلده، أو البلد الذي أجرى فيه بحثه.

لا يوجد في الوطن العربي قاعدة بيانات عن النشاط العلمي، وليست هناك قاعدة بيانات عن المعاهد أو المراكز والهيئات التي تجري البحث العلمي، وليست هناك وسائل مناسبة أو متوفرة لنشر النتائج التي يتوصل إليها العلماء أو نشر خبراتهم وليست هناك وسائل مباشرة وفعالة لنقل الخبرات إلى المؤسسات الصناعية العربية، أو مكاتب الاستشارات، أو شركات المقاولات العربية.

والفارق الرئيس بين النشاط العلمي في الوطن العربي وفي دول متقدمة في العالم الثالث كالصين والهند وكوريا الجنوبية والبرازيل وماليزيا، يكمن في أن الأخيرة قد قامت بإنشاء منظومة قومية لنشر المعرفة في أرجاء الدولة؛ ولم يتم بعد تطوير مثل هذه المنظومة في الوطن العربي. بمعنى آخر أن الدول العربية لم تنتفع بعد من قوى العلم والتقنية المتقدمة إلا على نطاق ضيق، بالرغم من الموارد المتنوعة والكثيرة التي يمكن استثمارها في هذا المجال. وإذا أخذنا إحدى تلك الدول على سبيل المثال لا الحصر لإلقاء نظرة سريعة على سياسات التعليم لديها مثل ماليزيا لوجدنا أن التعليم فيها يهدف بشكل عام إلى إعداد المواطنين بصورة أكثر ديناميكية وإنتاجية وإنسانية لمواجهة تحديات العصر. كما يهدف إلى إعداد الأفراد عقلياً وروحياً وعاطفياً وجسمياً إعداداً قائماً على الإيمان بالله وطاعته، وتحرص مناهج التعليم على تزويد الطلاب بالمعارف والمهارات ليتحملوا المسؤولية والقدرة على المساهمة في عملية التنمية الوطنية لتحقيق وضع صناعي جديد، ولتحقيق وحدة ورخاء الأسرة والمجتمع والوطن. ومن هذا المنطلق حقق قطاع التعليم الدولي الماليزي نقلة نوعية هائلة خلال العقد الماضي فيما أصبحت ماليزيا وبسرعة هائلة مركزاً للتعليم المتميز في المنطقة إذ تحتضن الجامعات الماليزية الآن ما يزيد على 60 ألف طالب أجنبي من أكثر من 100 دولة. وأضحت هذه الدولة تحتل مكانة بارزة على خريطة العالم التعليمية، إذ أرست قواعد راسخة في صناعة التعليم بجميع أشكاله ومراحله حتى أصبحت وبجدارة مركزاً للتعليم المتميز باحتضانها الأنظمة التعليمية المهمة في العالم وخصوصاً البريطانية والأميركية والأسترالية والكندية، بل صارت الجامعات الماليزية قبلة الطلاب العرب والمسلمين الذين يجدون ضالتهم المنشودة من حيث جودة التعليم ورخص الكلف والرسوم بالإضافة إلى الأجواء الإسلامية التي تسود جميع أرجاء ماليزيا.

لقد قال وزير التعليم العالي الماليزي في أحد حواراته الصحافيه إن الطلاب الأجانب يساهمون في الدخل القومي الماليزي بنحو 1.5 مليار رينجيت ماليزي (نحو 408 ملايين دولار)، مشيراً إلى أن تلك المبالغ ناتجة من الرسوم الجامعية التي يدفعها 50 ألف طالب أجنبي يدرسون في الجامعات الماليزية فيما لم يتم احتساب المصروفات الشهرية للطلاب مثل إيجار السكن والمأكل والمصروفات الشخصية.

ودعا في الوقت نفسه دول منظمة المؤتمر الإسلامي إلى ضرورة السعي لإقرار مناهج تعليمية مبتكرة جديدة تعتمد أساساً على العنصر التكنولوجي الذي يواكب متطلبات العصر الحديث، موضحاً أن ذلك سيساهم بشكل كبير في تذويب الهوة الخاصة بجودة التعليم فيما بين الجامعات بالدول الإسلامية من ناحية، ومثيلاتها الأخرى في الدول غير الإسلامية التي تتميز بمواكبة كل جديد وحديث من ناحية أخرى.

وعن عالمية التعليم العالي الماليزي، قال الوزير: نطمح إلى أن تكون ماليزيا مركزاً عالمياً للتعليم المتميز وإحدى الوسائل لتحقيق ذلك هي تأكيد التنوع والتعدد في الطلاب الأجانب الذين يدرسون في الجامعات الماليزية، ولذلك وضعت وزارة التعليم العالي الماليزية هدفاً يتمثل في زيادة عدد الطلاب الأجانب إلى 100 ألف بحلول العام 2010 ونأمل في تحقيق ذلك من خلال جودة متميزة للتعليم تستحق النقود التي يدفعها الطلاب للحصول على التعليم كما أملنا في أن يكون هذا السبب وغيره من الأسباب تدفع الطلاب العرب لتجربة الدراسة في ماليزيا.

لقد قام خادم الحرمين الشريفين مؤخراً بتعيين برفيسور ماليزي رئيساً لجامعة الملك عبدالله والتي يراد لها أن تساهم في تطور العملية التعليمية بالمملكة. لم يقم الملك حفظه الله باختيار أحد من أوروبا أو أمريكاً والتي احتلت جامعاتها المراكز العشرة الأولى في الترتيب العالمي لجودة الجامعات في العالم. لقد نظر الملك المفدى نظرة ثاقبة حينما اختار لشغل هذا المنصب أحد الرجالات الذين شاركوا في صناعة النهضة الصناعية والتكنولوجية والتعليمية التي تعيشها ماليزيا اليوم.

فلماذا إذاً فرنسا، ولماذا لم تكن ماليزيا؟









dr.aobaid@gmail.com

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد