أتشرف بأن أطلع القارئ الكريم على الوجه الآخر للأمير عبدالرحمن الداخل لاسيما مع مولاه بدر الذي أرسله لتهيئة الأمور قبله في الأندلس، فاستطاع بدهائه تهيئة الأمر له، فدخل عبدالرحمن الداخل الأندلس بعد أن ثبت دعوته وجمع من الأعوان ما يستطيع به منازلة خصومه، وكان لبدر مولاه يد طولى في ذلك، لكن عبدالرحمن الداخل غضب عليه لحدته في القول عند الطلب، فأرسل بدر رسالة إلى عبدالرحمن الداخل بعد تجريده من مناصبه قال فيها: أما كان جزائي في قطع البحر، وجوب القفر، والإقدام على تشتيت نظام مملكة وإقامة أخرى، غير الهجر الذي أهانني في عيون لكفائي أشمت بي أعدائي، وأضعف أمري ونهيي عند من يلوذ بي، وبتر مطامع من كان يكرمني ويحسدني على الطمع والرجاء، وأظن أعداءنا بني العباس لو حصلت في أيديهم ما بلغوا بي أكثر من هذا ف{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
فلما وقع عبدالرحمن على رقعته اشتد غيظه عليه فوقع عليها: (وقفت على رقعتك المنبئة عن جهلك، وسوء خطابك، ودناءة أدبك، ولئيم معتقدك، والعجب أنك متى أردت أن تبني لنفسك عندنا مكاناً أتيت بما يهدم كل مكان مشيد مما تمن به، مما قد أضجر الأسماع تكراره، وقد حث في النفوس إعادته، مما استخرنا الله تعالى من أجله على أمرنا باستئصال مالك، وزدنا في هجرك وإبعادك، وهضنا جناح إذلالك، فلعل ذلك يضمع منك ويردعك حتى نبلغ منك ما تريد إن شاء الله تعالى، نحن أولى بتأديبك من كل أحد، إذ شرك مكتوب في مثالبنا، وخيرك معدود في مناقبنا).
فلما ورد هذا الجواب على بدر سقط في يده وسلم للقضاء وعلم أنه لا ينفع فيه قول، ووجه عبدالرحمن من استأصل ماله وألزمه داره، وهتك حرمته، وقصر جناح جاهه، وصيره أهون من قعيس على عمته، ومع هذا فلم ينته بدر يستلينه، تارة يذكره وتارة ينفث مصدوراً بخط قلمه ما يلقيه عليه لسانه غير مفكر فيما يؤول إليه، إلى أن كتب له: قد طال هجري، وتضاعف همي وفكري، وأشد ما علي كوني سليباً من مالي، فعسى أن تأمر في إطلاق مالي، واتحد به في معزل لا أشتغل بسلطان، ولا أدخل في شيء من أموره ما عشت، فوقع له: إن لك من الذنوب المترادفة ما لو سلب معها روحك لكان بعض ما استوجبته، ولا سبيل إلى رد مالك، فإن تركك بمعزل في بلهنية الرفاهية وسعة ذات اليد والتخلي من شغل السلطان أشبه بالنعمة منه بالنقمة، فايأس من ذلك فإن اليأس مريح، فسكت لما وقف على هذه الإجابة مدة إلى أن أتى عيد فاشتد به حزنه لما رأى من حاجة من يلوذ به وهمهم بما يفرح به الناس، فكتب إليه في رقعة: (قد أتى هذا العيد الذي خالفت فيه أكثر من أساء إليك وسعى في خراب دولتك ممن عفوت عنه، فتبنَّك النعمة في ذراك، وافتقد ذروة العز، وأنا على ضد من هذا سليب من النعمة، مطروح في حضيض الهوان، أيأس مما أكون، وأقرع السن على ما كان). فلما رأى عبدالرحمن الداخل هذه الرقعة، أمر بنفيه عن قرطبة إلى أقصى الثغر وكتب له على ظهر رقعته: (لتعلم أنك لم تزل بمتقتك، حتى ثقلت على العين طلعتك، ثم زدت إلى أن ثقل على السمع كلامك، ثم زدت إلى أن ثقل على النفس جوارك، وقد أمرنا بإقصائك إلى أقصى الثغر، فبالله إلا ما أقصرت، ولا يبلغ بك زائد المقت إلى أن تضيق به معي الدنيا، ورأيتك تشكو لفلان وتتألم من فلان، وما تقوَّلوه عليك، ومالك عدو أكبر من لسانك، فما طاح بك غيره، فاقطعه قبل أن يقطعك).
وكان صاحبه الثاني في المؤازرة والقيام بالدولة صهره أبا عثمان بن خالد، وكان ضمن لأبي الصباح رئيس اليمانية في داخل الأندلس أشياء لم يف بها عبدالرحمن الداخل، بل قتل أبا الصباح، فانعزل عبدالله بن خالد وأقسم ألا يشتغل بسلطان قط ومات منعزلاً عن السلطان.
وكان ممن ناصره تمام بن عقبة وهو الذي عبر البحر إليه وبشره باستحكام أمره فقتل هشام بن عبدالرحمن ولد تمام المذكور، وكذلك فعل بولد أبي عثمان.
وقد حكي أنه لما هرب من الشام قاصداً إفريقية، نزل عند رجل من البربر يقال له وانسوس، وأن الطلب لحق به فخبأته زوجة وانسوس واسمها تكفات بين جسدها وثيابها، فلم يعثروا عليه. وعندما استتب له الأمر وفد إليه وانسوس مع عائلته فأكرم عبدالرحمن الداخل وفادتهم وأحسن إليهم، وقال عبدالرحمن الداخل ذات يوم مداعباً تكفات زوجة وانسوس: لقد عذبتني بريح إبطيك يا تكفات على ما كان بي من الخوف، وسعطتني بأنتن من ريح الجيف، فكان جوابها له: بل ذلك كان والله يا سيدي منك خرج ولم تشعر به من فرط فزعك، فاستظرف جوابها وأغضى عن مواجبتها بمثل ذلك.
نقلت للقارئ الكريم هذه القصص ليعلم أن المرء مهما كانت مكانته بشر له من الصفات الحسنة الكثير، وله بعض من الصفات الأخرى، لذا فإن الحكم المطلق على الأفراد إيجاباً أو سلباً من خلال طبائع معينة ليس بالضرورة عدم وجود نقيضها.