أولادنا أكبادنا تمشي على الأرض). هذه مقولة سارت مسار الأمثال واكتسبت أهميتها من حقيقة كونها واقعا ملموسا، ولنا أن نتصور هذه الأكباد التي تحرقها رمضاء الواقع وتلفحها سمائم الزوابع، وهي تتفطر ألما حينما يلم بأحد هؤلاء الأولاد مرض أو يحل به مكروه أو يتعرض لحادث، فإن قلوبنا يعتصرها الحزن ويستبد بها الأسى إزاء ما حدث، وأول بادرة تخطر في أذهاننا تتمثل في الرجوع إلى الله تبارك وتعالى وذلك بالدعاء والتضرع إلى المولى سبحانه ليرفع بفضله ما نزل من كرب وما حدث من مصاب، فهو وحده الذي يرجع إليه الأمر كله. وهو على كل شيء قدير، وهو القريب ممن دعاه المجيب لمن سأله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}
***
وأحفادنا هم امتداد لأولادنا في محبتهم والاهتمام بهم والاحتفاء بمكانتهم، والحرص على ما يسعدهم ويريحهم، ومن هنا تتفجر ينابيع المحبة وتتدفق جداول العواطف، ولا يملك الإنسان في هذا المضمار سوى التجاوب مع أواصر هذه المحبة، والاستجابة لتلك العواطف التي تملي على الوالدين وعلى من في محيطهما كالجد والجدة والإخوان والأخوات: السهر بجانب الولد: (ومفهوم الولد يشمل الابن والبنت) حين تلم به ملمة أو تحيطه مشكلة، وتتعلق أنفاسهم بصحة المريض من الأحفاد والأولاد، ويصبح السهر عليهم، وبذل الجهد لصالحهم، والتفاني في سبيل راحتهم من أوجب الواجبات. لأن الموقف هنا يدفع إلى التضحية بكل ما يسعد الأولاد ويرفع عنهم ما نزل بهم من مكروه، ويترتب على ذلك أن لا تغمض عين أم أو عين أب، وهي أو هو يشاهد ولده أو حفيده يتملل من الألم ويبكي من أعماقه. دون أن يسعده ويسعفه.
***
مناسبة ما تقدم يتمثل فيما حدث لحفيدي حامل اسمي: عبدالعزيز بن عصام السالم. حيث أصيب بفيروس: (الروتا) وهو مرض ينتشر بين الأطفال بصفة خاصة والصغار منهم بصورة أخص، وتتمثل خطورة هذا المرض في أن التساهل في الاهتمام به، وعدم العلاج الفوري للمصاب مما قد يؤدي إلى الوفاة، وعلى الرغم من المبادرة بنقل هذا الحفيد الحبيب إلى المستشفى إلا أنه حدثت له مضاعفات نتيجة خطورة المرض لا التساهل في إهمال المعالجة العاجلة.
***
في هذا العصر الذي تطورت فيه وسائل الحياة بكل ألوانها وأطيافها وتنوعاتها، فإن من المهم في هذا المجال هو الجانب الصحي الذي رافق تقدم الحضارة التي انعكست تطوراتها على التقدم الطبي بمختلف أنواعه وتعدد صور علاج الأمراض حسب تنوعاتها.
وفي مقابل التطور الحضاري، فقد تطورت الأمراض وتعددت أشكاله، وكثرت أنواعه بشكل لم يكن معهودا لدى الأسلاف من أجيالنا السابقة، ولا سيما ما يختص بالأطفال، فقد كان أسلافنا لا يعرفون سوى الجدري والحصبة من الأمراض التي تلم بالأطفال الصغار، وكأن من مقتضيات حياتهم أنهم في توقعاتهم يترقبون مثل هذين المرضين بصورة اعتيادية دورية، حتى كأن المرض من لوازم نشأة الطفل.. وفي عصرنا الحالي تعددت الأمراض للصغار والكبار على مستوى أوسع وفي صور أكثر، ومن هذه الأمراض ما هو حديث مما لم يكن معهودا فيما سلف مثل مرض (الروتا) وهو من الأمراض التي جلبتها الحضارة مع تقنياتها، فقد حملت أنواع الجراثيم وانتشرت الفيروسات على نطاق واسع، وتلوثت الأجواء تبعا لتطور الصناعات، وأصبح من المستفاض الآن انتشار الفيروسات على الرغم من الاهتمامات الصحية والاستعدادات الطبية. إلا أن الخطر الداهم مما تحمله هذه الفيروسات يظل محل اهتمام الأطباء وشكوى الكثيرين من أفراد المجتمع.
***
ولنا تجربة واقعية قريبة العهد لا تزال ظلالها تنسج في الذهن خيوطا عنكبوتية من الفزع والحزن، فقبل بضعة أيام أصيب الحفيد العزيز عبدالعزيز ابن الابن عصام بفيروس: (الروتا) -كما تقدم- وهذا الطفل القريب من القلب محبوب من الجميع، كالزهرة المتفتحة نضارة وتألقاً وهو الآن في مستهل عمره الصغير، وفي بداية المرحلة الأولى من حياته حيث بدأ خطواته الثابتة لإكمال عامه الخامس من عمره المديد بمشيئة الله تبارك وتعالى، والفاجعة فيه كبيرة، وجميع الأولاد لكل منهم مكانة خاصة في القلب لا تنقص بحب أحدهم وإنما هي عواطف مشاعة بينهم، والشاعر الكبير ابن الرومي يصور مثل هذا الوضع في رثائه أحد أبنائه بقوله:
وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البيّن الفقد
***
وهذا الصغير الذي نعي إلينا وهو لا يزال على قيد الحياة مما عمق في نفوسنا حبه، وكرس الجزع عليه كأنه قد فارقنا الفراق الأبدي الذي لا رجعة فيه ولا أمل من عودته، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، وتفسير هذا الموقف أنه أصيب بإغماءة شديدة في المستشفى عندما تجاوزت حرارته الأربعين وكنت ووالده في مكة شرفها الله، وقد اتصل والده ليطمئن على علاجه في جدة، وطلب من والدته أن يكلم الولد نفسه فأعطته سماعة التلفون، وظل والده يتحدث معه برهة من الوقت ويسأله عن الألعاب التي يحبها ليحضرها له إذا نزل إلى جدة، وإذا بالسماعة تسقط من يد الابن وظل يسمع صراخ والدته حين انقطع الاتصال فجأة، وإذا بها تتحدث في صوت حزين ونبرة متحشرجة وهي لا تستطيع التعبير عما تريد قوله من شدة البكاء وجهامة الموقف، وأخيرا نطقت العبارة التي غص بها حلقها: إن عبدالعزيز مات، وقد أفزع الخبر المؤلم والده الابن عصام فحمله إلي مذهولا وهو يتعثر في خطاه، والكلام يتحشرج في صدره ولا يكاد يفصح عنه لسانه لفداحة الخبر. حيث يغمره الأسى المفزع ويلفه الحزن المباغت، وغمامة من الحزن تطوقه، وحين استطاع أن يعبر عن المعيبة المصيبة التي حلت بنا، كانت قد خارت قواي من هول الصدمة، وصحت به من الذي نقل إليك الخبر السيئ قال: والدته وأكده خاله؟! وعلى رغم ما سحقني من حزن، وما عصف بوجداني من تأثر، فقد تشبثت بالأمل في الله جل جلاله، فقلت للابن البار عصام: كيف يحكم غير مختص بوفاته وهو في مستشفى دون معاينة طبيبه وتقرير يحدد نوع الوفاة وحقيقتها إذا كانت قد حدثت؟! وحين حاول أبوه الاتصال لطرح هذا التساؤل إذا بأمه تتصل وخاله معها يحملان البشرى أن الله سبحانه قد كتب للابن السلامة. حيث أفاق من الإغماءة وقد جرى إسعافه وأنه بفضل الله على قيد الحياة!
***
وللأولاد في النفوس البشرية السوية مكانة لها أهمية كبرى وقيمة عظمى. ذلك أن حب الأولاد غريزة طبيعية. فطر عليها كل مخلوق من مخلوقات الله ليس الإنسان وحده، وإنما يشمل ذلك جميع المخلوقات: البشر والحيوانات وسائر المخلوقات غير الآدمية سواء ما كان منها طائرا في الجو أو سابحا في البحر، أو ساربا في الليل أو سائرا في النهار، وسواء كان يمشي على رجلين أو على أربع أو يمشي على بطنه، فإن كل هذه الفئات من المخلوقات ترعى أولادها وتحافظ على أفرادها. تحتضنهم صغاراً وتتخلى عنهم كباراً بحكم التكوين الإلهي لطبيعة المخلوقات. عدا البشر الذين شرفهم الله بالعقول الواعية، والعواطف الإنسانية التي تجعل الروابط بين أفراد الأسر متينة لا تنتهي بمرحلة معينة كغيرها من المخلوقات الأخرى التي لا تدخل في دائرة البشرية، ولذا نجد كثافة العاطفة لدى الإنسان أقوى وأبقى، فإذا كان الحيوان وما هو في مستواه من المخلوقات الأخرى لديه غريزة في دورته الحياتية يدافع خلالها عن أولاده في المرحلة الأولى فقط فإنه تنقطع الصلة بين الأصول والفروع، وذلك على خلاف ما هو سائد بين الآدميين، فرعاية الإنسان متصلة مدى الحياة غير محددة بزمن معين ولا بمرحلة عمرية، فهي صلة تلازم بين الوالدين والأولاد لا تنقطع إلا بالموت الذي يفصل بين الوالد والمولود.
***
وفي ضوء هذه الحقيقة فإنه توجد علاقة أزلية متوالية الحلقات متماسكة الخطوات، فالولد يظل في كل العهود الحياتية محل العطف المستمر وموضع الود الدائم.. ومن هذا المنظور يمكن تأكيد هذا التوجه ببعض المواقف التي تبرز تألق العاطفة البشرية بين الأصل والفرع، وتؤكد أهمية الحنان من الأم أو الأب للولد ومدى الفرحة به والسرور بوجوده، ومما ورد في الأدبيات في هذا المضمون: أن أعرابية كانت ترقص ولدها بين يديها، وهي تهتف من أعماقها بأسمى معاني الحب وأصدق ألوان الحنان، وأروع نوازع اللهفة بحب وليدها وهي تدلله وترقصه من خلال عواطف تلتهب بعطاء الحب ولهفة المشاعر وهي تقول:
يا حبذا ريح الولد
ريح الخزامى في البلد
أهكذا كل ولد
أم لم يلد مثلي أحد
إنها صورة متلاحقة وعواطف متتابعة. كلها تتدفق بالحب والوفاء، والصدق في المحبة، والإخلاص في الود.. وهكذا نجد أن أولادنا في حقيقة وضعهم. هم قرة أعيينا ومناط آمالنا ومجال أحلامنا.
***
مكثت أتأمل البرهة الزمنية القاسية التي عصفت بنا وهي تحمل في تضاعيفها مرارة الحزن المرير الممزوج بالألم العنيف. حيث حملت نبأ رحيل ابننا المفاجئ، وهو نبأ أشبه بحلم مرعب هز نفوسنا، وعكر صفونا، وكدر استقرارنا.. لقد كانت صورة هذا الحفيد الحبيب مرسومة في ذهني داخل إطار ذهبي مسبوك بالحب والإعزاز. أتمثل بسمته الطفولية المشرفة، ومحياه الباسم، والتفاتته اللافتة، وحركاته الهادئة، وكلماته الحلوة المعبرة عن خوالج نفسه الغضة كطفل صغير يعيش أحلامه الوردية وآماله التي لا نهاية لها ومستقبله الواعد، فإذا الخبر الذي نقل إلينا يختزل كل ذلك في قبضته، وهو لا يزال يدرج في ربيعه الخامس من العمر.. كان يشدني بضحكاته التي ترتسم على محياه حينما أفتح ذراعي لأحتضنه وأقبله بحرارة الشوق إلى الالتقاء به، هل تبخر ذلك كله بخطأ تشخيص أو تعجل خبر غير محمود يعلن النبأ الفاجع الذي أصابنا بالوجوم ونشر بيننا الذهول.. كيف حدث ما حدث؟! إن ما يحدث في هذه الحياة من بعض الوقائع والأحداث يشبه الأحلام المزعجة والأوهام المرعبة، وبعضها أشبه بالدراما العنيفة التي هزت جذور الوجدان ومزقت نياط القلب.. والحادث الذي جرى لابننا (عبدالعزيز) من إعلان وفاته وهو حي يشبه الحلم المزعج المرعب، ولعل ذلك يتواكب مع ما يلف دنيانا من تحولات عنيفة وحوادث موجعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم عليه توكلنا وعليه يتوكل المؤمنون.