لا يستطيع أحد أن يقول إن أمريكا ليست بلداً تتوفر فيه الحرية والديمقراطية، فالأجنبي منذ أن تطأ قدماه أرض الولايات المتحدة الأمريكية لا يواجه في التعاملات اليومية ما يشعره بالغربة، أو يشعره بأنه أجنبي عن تلك البلاد، على الأقل هذا ما كان عليه الوضع قبل أحداث الحادي عشر من سبتمبر، ولقد عشت مع كثير من المبتعثين من العالم الإسلامي والعوالم الأخرى في أمريكا قبل تلك الحادثة سبع سنوات،
وكان النساء المسلمات يلبسن الحجاب الذي لا يبدو منه إلا الوجه والكفان، ولا يواجهن أي مضايقات مثلما هو الحال في بعض البلدان الإسلامية، وكما هو الحال في فرنسا مؤخراً، وبعضهن كن يقدن السيارات، ويدرسن في الجامعات، ويساعدن أزواجهن في شؤون الأسرة، ولكن يبدو أن الأوضاع بعد الحادي عشر من سبتمبر قد تغيرت، ولقياس درجة التعصب ضد المحجبات قامت محطة أي بي سي (ABC) الفضائية الإعلامية المشهورة بتجربة اجتماعية لقياس ردود أفعال المجتمع حيال ممارسة التفرقة العنصرية ضد المحجبات من المسلمات، فأتوا بممثل وممثلة، الممثل يلعب دور البائع في محل تجاري، أما الممثلة فألبسوها حجاباً، وقامت بدور المحجبة، تدخل المحل التجاري فيقوم البائع بنهرها، ويطلب منها المغادرة، ويرفض البيع لها، وكانت التجربة تركز على ردود أفعال من يكون موجوداً في المحل التجاري من الأمريكيين، وفي المرة الأولى كان هناك أمريكي عجوز في المتجر، سأله المذيع الذي كان يمثل دور زبون في المحل عن رأيه في الموضوع، فأظهر تأييداً لما قام به البائع، وأن أمثال هذه السيدة لا تجب خدمتها، واتهم معد البرنامج بأنه غير أمريكي عندما أبدى استغرابه لهذا التصرف، وهذا نوع آخر من أنواع التكفير، وشخص آخر كان في باب المتجر عندما رأى تصرف البائع مع المحجبة رفع إبهام يده تأييداً لتصرفه ذاك، ومن جانب آخر كان هناك أكثر من شخص عارضوا البائع بشدة وتلفظوا عليه بألفاظ نابية مستنكرين تصرفه، وكان في البرنامج شابة مسلمة اسمها (نهاية جابر) مولودة في شيكاغو وترتدي الحجاب، وذكرت ما تتعرض له بصفة يومية من هجوم لفظي، وأنها لا تشعر بأنها تعيش في أمريكا، وأنها مستعدة لخوض هذه المعركة باستمرار، وشاركت في بعض لقطات البرنامج، ومن أغرب المواقف التي وردت في التجربة أن فتاتين أمريكيتين شابتين، عندما سمعا هجوم البائع على المحجبة وأنه يطلب منها الخروج من المكان بحجة أنها ربما كانت تحمل قنبلة، اعترضتا عليه بقوة، وعندما قال بأنها لا تلبس مثل الأمريكيين، وأنه فعل ذلك لحماية زبائنه، قالتا بأنه إنسان سخيف، وأن تصرفه غير مقبول فهذه سيدة مسلمة، ويجب احترامها، وطلبت إحداهما مقابلة المدير لتشكو له تصرف البائع، وعندما قابلهما المذيع خارج المحل التجاري انهمرت الدموع من عينيهما تأثراً بالمشهد العنصري الذي شاهداه في المحل التجاري ضد المحجبة، ومنظر آخر لشخص عجوز اعترض على تصرف البائع بشدة عندما طلب من نهاية أن تخرج من المكان، وأنها تشكل خطراً على زبائنه، فقال له البائع: أنت لست أمريكياً!! فرد العجوز بأنه أمريكي وأن ابنه عاد لتوه بعد سنة من الخدمة في العراق، وترك المتجر ولم يشتر منه شيئاً احتجاجاً على تصرف البائع، وعندما قابله المذيع خارج المكان، قال والدموع تنهمر من عينيه: إن كل إنسان يستحق أن يعامل باحترام، ويجب صون كرامته بغض النظر عن دينه ولونه وجنسيته، وكانت نهاية جابر المشاركة في البرنامج حاضرة وقالت بأن أمثال هذا الرجل العجوز يجعلون الحياة مريحة لها ولأمثالها، وكان تصرفه معها مثل تصرف أب مع ابنته فيه ود واحترام وتقدير، وفي نهاية التجربة الاجتماعية الإخبارية لمحطة أي بي سي (ABC) وجد أن الذين شملتهم التجربة بلغ عددهم 41 شخصاً، 13 شخصاً منهم يمثلون نحو 32% من العينة وقفوا مع المحجبات ودافعوا عنهن، وانتقدوا العنصرية ضدهن، يقابلهم 6 أشخاص يمثلون نحو 15% من العينة كانوا مؤيدين لتصرفات البائع ولممارسة العنصرية ضد المحجبات ومن ثم ضد كل ما هو إسلامي، أما الغالبية العظمى وهم 22 شخصاً ويمثلون 53% فقد كانوا محايدين، لم يتدخلوا لا بالتأييد ولا بالاعتراض، ومن ثم لم تتبين اتجاهاتهم، ولكنها مؤشر على أنهم أناس مسالمون لا يريدون أن يقحموا أنفسهم فيما يعتقدون أنه لا يعنيهم. هذه التجربة الصغيرة تعطينا مؤشراً على أن المجتمع الأمريكي في معظمه يأبى الظلم، ويحارب العنصرية والتطرف، ويسعى إلى احترام حقوق الإنسان، وأن ما تقوم به الحكومة أحياناً من تصرفات مثل تلك التي في جوانتانامو، وفي العراق وفي أفغانستان تواجه معارضة ونقداً من معظم الشعب الأمريكي.
(*) أستاذ علم الاجتماع في جامعة الإمام، رئيس مجلس إدارة الجمعية السعودية لعلم الاجتماع والخدمة الاجتماعية
فاكس 012283689
zahrani111@yahoo.com