(قناة الإخبارية) دَلَقَتْ أقتاب اللقاء السابع للحوار الوطني بالبث المباشر لكل الجلسات والمداخلات، ولولا تلك المبادرة المباركة لما كان لأحد أن يَهْتدي لهذه التظاهرة (الأرستقراطية) |
التي كنا نود أن تعبق في سماوات المؤسسات الثقافية والتعليمية عبر لقاءات هامشية في منطقة يود أهلها أن يكونوا حاضري موائدها الشهية ليتَضلَّعوا من معينها وليتعرفوا على نُخَبِها بمختلف أطيافهم ومناطقهم إذ ما كان لهذا اللقاء أن يتم دون أن تكون له هوامش تُمكِّنُ من الارتواء، وتَعْدِلُ بين الظمأ، وتُحقِّقُ الهدف من تداول اللقاء مناطقياً و(مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) لمَّا يزل مجهول الهوية لدى الكثير من المتابعين، وهو أحوج ما يكون إلى الخلطة، ولا سيما أنه من المواطن وإليه يتنفس من خلاله، ولقد كان لي شرف الإسهام في بداياته الأولى، وكنت ولمَّا أزل قريباً من تلك المنشأة الحضارية ومن رجالاتها أعرف الكثير عن دخائلها ومراميها وأدلي بجهد المقل بين الحين والآخر مشاركاً في بعض مناشطها، ورغبتي في الخلطة لمن لم تتح لهم فرصة المشاركة في لقاءاته. |
فلا نزلت عليّ ولا بأرضي |
سحائب ليس تنتظم البلادا |
على أن القائمين على المركز يضيقون ذرعاً بالفهم الخاطئ لرسالته ومهماته، وهي فيما أرى محاولة جادة لتفادي الصدام حول القضايا بالاجتهادية، التي لا تحسم بالنص المنطوق، وإنما تقوى بمفهومه ومقاصده، وبشيء من فقه الواقع والأولويات وبفقه الضَّعْف والفتن، وحرص على تعويد الأطياف على إتقان فقه الحوار مع المخالف والقدرة على تقبل الرأي الآخر برحابة صدر ورباطة جأش ورجاحة عقل وقدرة على تقليب الآراء المتباينة على نار هادئة سعياً وراء الحق المنشود. |
هذا الاضطراب في المفاهيم جعل طائفة من المشاركين في الجلسات يَنِدُّون في حواراتهم عما يهدف إليه المركز ومعطى الفهم الخاطئ صيَّر البعض يتصور أن المركز لم يحقق شيئاً من رسالته، ويقيني أننا نفتقر إلى ثقافة المؤسسات الأمر الذي حفزني على مبادرة الكتابة والتحريض على إشاعة ثقافة أي مؤسسة تنشأ لخدمة العامة، وكم تمنيت أن تنهض المؤسسات التعليمية والإعلامية بمثل هذه المهمات التوعوية ما دامت الدولة جادة في المأسسة، إذ لكل مؤسسة رسالتها وأهدافها، ولن تتحقق الاستفادة منها ما لم تكن ثقافتها مطروحة في الطريق يعرفها العامي والمتعلم. |
و(مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني) ليس بدعاً من سائر المؤسسات إذ هناك مؤسسات كثيرة، قد لا يعرف بعض أعضائها جوانباً من رسالاتها ومهماتها، فضلاً عن الأبعدين، والناس أعداء ما جهلوا، وكم من مؤسسة مهمة تغفو في الظل لأن الناس لا يعرفون حدود مسؤولياتها، وعندما يَنِدُّ المشاركون عما ترمي إليه المنشأة يشكلون عبئاً يُبطئ بالأداء السليم، ولك أن تسأل عن (مجالس المناطق) التي لم تكن حاضرة في الأذهان مع أهميتها، وأهمية الأدوار التي تقوم بها، وما نراه من تقصير في الأداء أو انزواء في الظل لبعض محققات المدنية مرده إلى جهل المقاصد وكل دولة تستبق المؤسسات المدنية تحتاج إلى أرضية ثقافية تمكن المستفيدين من إتقان التعامل معها، وأحسب أن الأطراف كلها مسؤولة عن هذا التعتيم. |
والمركز مبادرة حضارية كنا نود أن تشبع مقاصده في الذين يحلو لهم تنازع البقاء الفكري ثم لا يكونون على بينة من فقه الحوار من حيث الأنواع والأسس والوسائل وصفة المخالف والمقاصد، وأهمية الوحدة الفكرية أو المصالحة والتعايش وذلك أضعف الوفاق. |
ولربما كان الحافز لإصدار مجلة (حوار) عن المركز تلافياً لهذا النقص في ثقافة المؤسسة، فالدعوة الكريمة التي تلقيتها من معالي الأخ الكريم الأستاذ (فيصل المعمر) للكتابة تضمنت الحوافز المتمثلة بالتعبير عن (استراتيجية) المركز وأهدافه ونشر ثقافة الحوار ونشر قيم الاعتدال والوسطية والتسامح في المجتمع السعودي والعربي. |
المتألقون في اللقاء السابع كثيرون ورؤوسهم معالي الشيخ صالح الحصين ومعالي الدكتور غازي القصيبي، وذلك بتصديهم المعرفي والمنطقي لمن ذرفوا دموع التماسيح على وضع المرأة وصيروا من دموعهم وقوداً للمغرضين وللمؤسسات الغربية التي تقعد لبلادنا وعقيدتنا وقادتنا كل مرصد، وكان آخر افتراءاتهم ما صدر عن مؤسسة (هيومن رايتس ووتش) المتخصصة بالدفاع عن حقوق الإنسان مطالبة برفع القيود عن المرأة وهي نفسها التي انتقدت (دولة الكويت) في مطاردتها للجنس الثالث، وطالبت بكل وقاحة وتعد سافر على سيادة الدولة بتمكين المتشبهين من الرجال بالنساء والمتشبهات من النساء بالرجال من حرية الاختيار، وكأننا خراف خليجية، والتخندق معها مؤذن بطمس الهوية واستنزاف لجهود المملكة لدفع المغريات وهي جهود كان يجب أن تصرف لمصالح الأمتين العربية والإسلامية ولكن البراقشيين من أبنائنا لا يفتؤون يمدونها بالحجج المفتريات، وكأني بها تعزز رؤيتها ومواقفها الكائدة بشاهد من الأهل. |
لقد جاءت كلمة معالي الشيخ صالح الحصين في الجلسة الختامية وكلمته بين يدي خادم الحرمين الشريفين عند لقائهم به قاطعة لقول كل خطيب، إذ عرض في كلمته الأولى لتجربة (الثورة الشيوعية) وأشار إلى رؤية (جوربا تشوف) ولقد عدت إلى مكتبتي منقباً عن تلك الرؤية التي ألجم فيها معاليه دعاة الحرية دون ضابط، فكان أن استعرض ثلاثة كتب : (البيريسترويكا) رؤية نقدية بقلم مجموعة من المفكرين الغربيين ترجمة (بشير السباعي) و(البيريسترويكا من منظور إسلامي) لكل من فتحي يكن ومنى حداد وكتاب (جورباتشوف) قضايا (المرأة والأسرة) في كتابه فبعد أن تعرض للأضرار الناجمة من إطلاق الحرية للمرأة ومساواتها المطلقة بالرجل قال: (ولهذا السبب فإننا نجري الآن مناقشات حادة في الصحافة وفي المنظمات العامة وفي العمل والمنزل بخصوص مسألة ما يجب أن نفعله لنسهل على المرأة العودة إلى رسالتها النسائية البحتة) (ص 138 ط2 - 1988م) هذا رجل ليس سلفياً وليس متخلفاً. |
وقد خلص إلى رأيه ذلك بعد تجربة سبعة عقود كانت كافية للعودة إلى الرؤية الإسلامية التي تجعل قرار المرأة في البيت هو الأصل والعمل ضرورة تُقَدّر بقدرها، ثم إن تخلف الأمة العربية لا يحسمه خروج المرأة، لقد خرجت منذ دعوة (قاسم أمين) وما زادت الأمور إلا تخلفاً، وهي في بلادنا أستاذة وطبيبة وعاملة، ومع ذلك تتوفر على متطلبات الحشمة الإسلامية التي تضمن لها الحرية والكرامة والمشاركة المحسوبة بكل دقة، ومعاليه إذ ضرب مثلاً بنظرية (إعادة البناء) فقد ضرب مثلاً آخر بالتجربة الأمريكية حيال المرأة التي بلغت ذروتها في الستينيات من القرن العشرين وبعد أربعة عقود تبين أن الاندفاع غير المحسوب لم يحقق إلا مزيداً من التفكك الأسري والتفكير في عودة المرأة إلى مهمتها الأصلية المتمثلة بتربية الأبناء، وممارسة الأعمال المناسبة لها. |
أما معالي الدكتور غازي القصيبي المتمرس بفن التملص فقد أحال موقفه إلى النظام بوصفه منفذاً لا مبادراً، وهو بين المحافظين الذين يطالبون بمزيد من القيود والمجددين الذين يطالبون بمزيد من الانفتاح، ولمَّا لم يكن مع الطرفين فقد تمترس وراء الضوابط التي وضعتها الدولة لعمل المرأة، وهي ضوابط معتدلة ومنصفة ومراعية لمتطلبات المرحلة ومقتضيات الإسلام، والدولة بوصفها دولة إسلامية لا تمنح نفسها حرية التصرف، ولا يمكن أن تستجيب لدعاة الحرية المطلقة، وتجربة الدولة في تعليم المرأة وعملها تجربة رائدة ومستجيبة لمتطلبات المرحلة، وليس هناك ما يمنع من تداول الرأي حول المستجدات إذ لكل حدث حديث. |
أما المنطفئون فهم أولئك الذين أعادوا اجترار قضايا المرأة بصوت عائم وعالي النبرة دون أن يكون لهم خطاب متميز تتحقق من خلاله محققات حضارة الانتماء وفي إطار هذا التداول الذي أخذ على عاتقه الاحترام المتبادل تظل أحوال المرأة بحاجة إلى دراسة معمقة يلتقي عندها علماء الشريعة والاجتماع والإدارة والاقتصاد من الجنسين مستبعدين التشنجات والمزايدات وتبادل الاتهامات مستحضرين فوارق الحضارات، والمرأة في ظل كل حضارة أو عصر أو مصر تتعرض لوقوعات فردية وتحكمها عادات متوارثة، ليست من مبادئ حضارة الانتماء، ولا يمكن أن تُحمِّل المبادئ المسؤولية، كما أن الحلول لا تلتمس من حضارة الغير، والمقترفون لتعميم هذه الوقوعات لم يكن لهم مواقف ممتعضة إزاء ترديات المرأة العربية، وهي ترديات لا تحتمل، فإذا كانت العادات القديمة تسيء إلى المرأة فإن الكاسيات العاريات المائلات المميلات المتبرجات تبرج الجاهليات يَصِمْنها بسُبَّة الدهر. |
ومن الخير إن كان ثمة اهتمام بالمرأة المسلمة أن نستعيدها من مهاوي الرذيلة ثم نرسم معها طريقا قاصداً تتوفر فيه على مهمتها بوصفها مدرسة لتربية الأجيال. |
لقد كان اللقاء ممتعاً ومفيداً ومثيراً وسيكون مثار خلاف كثير بين كل الأطراف، وهو أكثر فائدة ومتعة وإثارة لو وسع من لقاءاته الجانبية ونُظِّمت للوفود زيارات عمل للمؤسسات التعليمية والثقافية في منطقة تعج بالكفاءات والمشاهد، ويتعطش أهلها إلى الاحتفاء بضيوف المنطقة. |
مسك الختام وآخر الدعوى كلمة خادم الحرمين الشريفين المقتضبة المحبَّرة التي جاءت بمثابة منارة يهتدي بها المتحاورون، لقد تمنى على الله أن يصون كل حوار متسامح كريم منفتح على كل أفق نبيل وخير، وحذر من التفلت على القيم والثوابت، وحرض على فتح بيتنا التاريخي. فهل من مدَّكر؟ |
|