هذا العنوان (انحلال الغرب) هو عنوان لكتاب فيلسوف غربي. يقول بدوي: أوزفلد شبنجلر oswald spengler فيلسوف حضارة ألماني، أحدث تأثيراً هائلاً بكتابه (انحلال الغرب). وقد ولد هذا الفيلسوف سنة 1880م وتوفي في سنة 1936م. وما يهمنا من أمر هذا الفيلسوف هو ذكر بعض آرائه في الحضارة بوجه عام
وفي الأسباب التي أوردها وأدت إلى انحلال الغرب من وجهة نظره. يقول بدوي:... لقد تمثل اشبنجلر التطور الهائل في النظر إلى فسلفة التاريخ.. وتأثر بفلسفة الحياة التي سادت ألمانيا في أوائل القرن العشرين، فرأى أن يحدث في فلسفة التاريخ ثورة.. وبدأ شبنجلر ثورة الجديدة هذه بوضع تمييز بين (التاريخ) وبين (الطبيعية).. يقول: (إن التاريخ مطبوع بطابع الحدوث مرة ما، أما الطبيعة فمطبوعة بطابع الإمكان باستمرار.. وكل مذهب في الطبيعة مكون من مجموعة حقائق، أما التاريخ فيقوم على وقائع.. ثم ميز اشبنجلر بين التاريخ والتأريخ أي كتابة التاريخ فالتاريخ غير التأريخ، بل إن الواحد لا يكاد يقوم إلا على أساس إنكار الآخر. وذلك لأن التاريخ صيرورة خالصة، بينما التأريخ لا يمكن أن يقوم إلا بتحويل شيء من هذه الصيرورة الخالصة إلى ثبات. وكلما كان الجزء المتحول من التاريخ أكبر كانت عملية التاريخ أيسر. ووصف اشبنجلر الصورة التي يتجلى عليها التاريخ العالمي، فقال: (فيض لا نهائي من الصور - الأحداث - اللا نهائية التي تظهر ثم تختفي، وترتفع، ثم من جديد تغوص، وخليط هائل فيه ترفّ آلاف الألوان والأضواء يبدو فريسة لأشد أنواع الاتفاق والصدفة نزاء وسورة تلك هي الصورة الأولى للتاريخ العالمي كما تتراءى منتشرة على شكل كل واحد أمام أعيننا الباطنة. ولكن العين المرهفة النفاذة إلى أعمق أعماق الأشياء لا تلبث أن تميز في هذه الفوضى المطلقة صوراً ظاهرة ران عليها غشاء ثقيل لا تريد التخلص منه إلا بعناء، صوراً يفيض من ينوبعها كل صيرورة وكل تطور إنساني). وهذه الصور هي الظواهر الأولية لتاريخ الإنسانية. ويقول شبنلجر مبيناً الوهم الأول لدى المؤرخين الأوروبيين المحدثين: (وقد تجلت الصورة الأولية للرجل الأوروبي أول ما تجلت على شكل كتلة هائلة لا يحصرها المدى من الكائنات الحية الإنسانية، وسيل جارف ينبع من هاوية الماضي السحيق حيث يفقد شعورنا بالزمان كل قدرة على التنظيم، وحيث قذف بنا الخيال الجامح.. إلى صور العصور الجيولوجية كي يخفي من ورائها سراً لا يمكن النفوذ إليه.. ليس فيه ثمة مجال للزمان... ثم حاول أن ينظمها فتصورها منقسمة إلى ثلاثة أقسام سماها: العصور القديمة، والعصور الوسطى، والعصور الحديثة، فأخذ من حضارته محوراً ثابتاً من حول يدور التاريخ ولم لا، وحضارته هي المركز الذي منه ينظر والأفق الذي يحد في الواقع بصره، والشمس المركزية التي منها ينتشر الضوء على كل الوجود! أي أن الذي يتحدث هنا هو الغرور الذي تملك الرجل الأوروبي، فلم يردعه شك ولا تواضع، بل اندفع يلوك في عقله هذا الشبح، شبح (التاريخ العام)، وأي (تاريخ عام)، إنه ذلك التاريخ الذي يوهمنا بأن تاريخا بعيداً حافلاً بالأحداث ممتداً إلى عدة آلاف من السنين كتاريخ مصر أو الصين يركز ويضغط في بضعة حوادث عارضة مشتتة، بينما تاريخ قريب تافه الأحداث لا يكاد يمتد إلى عشرات قليلة من السنين كتاريخ عصر نابليون، ينتفخ ويتضخم كما تتضخم الأشباح فيبدو أحفل من التاريخ الأول بمرات ومرات! وبينما لم نعد نتوهم أن السحابة البعيدة تسير بسرعة أقل من السحابة القريبة وأن القطار يزحف بطيئاً وهو يخترق منطقة بعيدة، ما زلنا مع ذلك نتخيل بل ونؤمن بأن سرعة التاريخ القديم: من هندي وبابلي ومصري أقل في الواقع من سرعة ماضينا القريب. أما الوهم الثاني - في عقلية المفكر الأوروبي - كما يقول اشبنجلر..: لا يقل أثراً في تشويه صورة التاريخ عن الوهم الأول، هو ذلك الوهم الذي يُخيّل إلينا أن التاريخ العام يسير على خط أفقي ممتد يمثل (إنسانية) واحدة تتقدم باستمرار وفي تيار هذا الوهم انساق نفر من المفكرين والفلاسفة والمصلحين الذين رأوا فيه تحقيقاً وتأييداً ومعيناً على تصور ما يحلمون به من مثل عليا. يقول اشبنجلر: فعلينا - يقصد الرجل الأوروبي - أن نتخلص من هذين الوهمين. هنالك سنرى أن التاريخ يتكون من كائنات عضوية حية هي الحضارات، وكل حضارة منها تشبه الكائن العضوي تمام الشبه، فتاريخ كل حضارة هو كتاريخ الإنسان أو الحيوان أو الشجرة سواء بسواء. والتاريخ العام هو ترجمة حياة هذه الحضارات.. ويبين اشبنجلر كيف تولد حضارة من الحضارات فيقول: (تولد الحضارة في اللحظة التي فيها تستيقظ روح كبيرة وتنفصل عن الحالة الروحية الأولية للطفولة الإنسانية الأبدية كما تنفصل الصورة عما ليس له صورة.. وهي تنمو في تربة بيئة يمكن تحديدها تمام التحديد، تظل مرتبطة بها ارتباط النبتة بالأرض التي تنمو بها. وتموت الحضارة حينما تكون الروح قد حققت جميع ما بها من إمكانيات على هيئة شعوب ولغات ومذاهب دينية وفنون علوم. ومن ثم تعود إلى الحالة الروحية الأولية) (نعتقد أن الحضارة العربية في حالة احتضار وفي الرمق الأخير في وقتنا الحاضر إلا إذا حقنت بترياق شاف؟). ويقول اشبنجلر أيضاً: ولما كانت الحضارة كالكائن العضوي الحي فإنها تمر بنفس الأدوار التي يمر بها هذا الكائن الحي إبان تطوره: فلكل حضارة طفولتها وشبابها ونضجها وشيخوختها، أو إن شئت فمثل أدوار الحضارة بأدوار السنة، وقل حينئذ إن لكل حضارة: ربيعها، وصيفها وخريفها، وشتاءها.. فحضارة كالحضارة الغربية (أو الأوروبية الأمريكية) تبدو لأول مرة على الأضواء الخافتة في فجر العصر الروماني القوطي سنة 900 ميلادية، تبدو طفلة لم تشعر بعد بقواها، فتقدمت إلى النور في خوف واستحياء (في هذا الوقت كانت الحضارة العربية في أوجها، وخصوصاً في الأندلس) ثم وصف اشبنجلر كيف تقدمت وتطورت الحضارة العربية - خلال العصور التالية حتى وصلت إلى أوجها ثم بدأت بالانحدار والتراجع حيث يقول: فإذا ما وصلت الحضارة إلى قمة تطورها وحققت كل ما فيها من إمكانيات واستنفدت قواها الخالقة، بدأت شيخوختها وانتقلت من حالة الحضارة بمعناها الدقيق إلى حالة المدنية، فينطفئ النور الذي كان متوهجاً بها من قبل، شيئاً فشيئاً، ولا يرسل إلا شعاعاً فيه من القوة الحقيقية أقل مما يدل عليه المظهر.. وأخيراً، وبعد أن أصبحت منهوكة القوى، خالية من العصارة، قد نضب منها دم الحياة، تفقد الحضارة الرغبة في الوجود فتطمح.. إلى النور الباهر الذي غمرها منذ ميلادها حتى ذلك الحين، إلى حيث تجد ملاذاً لها في الظلمة التي تكشف حياة الأرواح الأولية وفي بطن أمها الأولى التي فيها نشأت، في القبر.
وتطرق اشبنجلر إلى التمايز بين الحضارات فلكل حضارة كيانها المستقل المنعزل تمام العزلة عن كيان غيرها من الحضارات وتحدث اشبنجلر عن أشهر الحضارات التي ظهرت في التاريخ ومتى ظهرت، وفي أية بيئة ولدت. وفي تأمله للتاريخ العام اكتشف اشبنجلر وجود ثماني حضارات عليا رئيسية هي: الحضارة المصرية، الحضارة البابلية، الحضارة الهندية، الحضارة الصينية، الحضارة القديمة (اليونانية - الرومانية)، الحضارة العربية، الحضارة المكسيكية، الحضارة الغربية (الأوروبية الأمريكية). ويقول بدوي: ولكن الاكتشاف الخطير الذي قام به اشبنجلر في ميدان الحضارات هو اكتشافه وجود حضارة ذات رقعة موزعة بعض التوزع، حدها الشمالي مدينة الرها، والجنوبي سوريا وفلسطين... وتقوم لها الإسكندرية بمثابة الطليعة. وتحد من الشرق بتلك المنطقة التي سيطرت عليها الديانة المزدكية.... وفي أقصى الجنوب توجد المنطقة التي ستكون مهد الإسلام في المستقبل.. هذا العالم المختلط المتشعب الأطراف لم يستطع أن يشعر بوحدة إلا على يد الإسلام. وهذا هو سر نجاحه الهائل السريع، فإن العلة في هذا النجاح هي أن الإسلام هو وحده الذي استطاع أن يجعل هذه البيئة الشاسعة الموزعة تشعر بأنها تكون وحدة، وهي وحدة الحضارة التي تربطها كلها في ذلك الزمان. وعن الإسلام نشأت الحضارة العربية التي بلغت أوج نضوجها حينما أغار المتبربرون الأوروبيون على هذه البيئة قاصدين بيت المقدس: فالمدينة الإسلامية حتى الحروب الصليبية تمثل الصورة العليا لهذه الحضارة، التي سماها اشبنجلر باسم (الحضارة العربية). ولعل السبب في تسميته إياها بهذا الاسم الذي لا ينطبق إلا على جزء منها أن العرب هم الذين استطاعوا على يد الإسلام، أن يجعلوا منها وحدة شعورية تامة، وأن يكونوا منها إمبراطورية محددة، وأن يبلغوا بها أعلى درجة قدر لها الوصول إليها. وبعد أن أشار اشبنجلر إلى الحضارة المكسيكية والتي توسطت في الزمن بين الحضارة العربية والحضارة الغربية، تحدث عن الحضارة الغربية والتي جاءت متأخرة، فهو يذكر أنه في حوالي سنة 1000 بعد الميلاد شعرت الشعوب الأوروبية بجنسيتها: هذا ألماني، وذاك إيطالي، وآخر فرنسي الخ. بعد أن كانت هذه الشعوب لا تشعر بجنسيتها باعتبارها فرنجة أولمبارديين أو قوطاً.
نقول: لقد أوردنا هذه المعلومات - وهي ليست منا - حتى يعرف القارئ أن الحضارة العربية الإسلامية تعد من الحضارات العالمية الرئيسية كما يشهد لها التاريخ والغرب بذلك، وإن كانت اليوم في حالة تراجع، فقد تنهض مرة أخرى إذا استطاع أبناؤها من امتلاك العلم والمعرفة والتقنية وكل سبل التطور والتقدم، والفرص متاحة لذلك..
المرجع:
عبدالرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة، 1984م