Al Jazirah NewsPaper Monday  28/04/2008 G Issue 12996
الأثنين 22 ربيع الثاني 1429   العدد  12996

حول الفنجان

 

ثلاث قصائد سمحنا لأنفسنا نستقبلها بنفس واحد، رغم أن الأولى مكونة من بيتين، والثانية من أربعة أبيات، فحقهما أن يسميا مقطوعات. أما القصيدة الثالثة فقد تجاوزت حد المقطوعات، وعنوانها (قارئة الفنجان) وتتفق القصائد الثلاث في اختيار الموضوع.

قال العقاد بعنوان (الفنجان):

أتؤمن بالفنجان؟ لا يا صديقي

بثغرك، لا الفنجان أصدق إيماني

إذا هو أعطاني السعادة فلتكن

نبوءتها في الكأس اسؤر فنجان

وإن يكن المغزى هناك خرافة

فثغرك صدق في ابتسام وتبيان

وفي كوثرتي من رضاب معطر

وفي جوهرتي من ثناياه فتان

الفنجان خرافة يتعامل معها الناس كما يتعاملون مع الخطوط، وضرب الودع، والرمل، بغية استطلاع الغيب واستشراف المستقبل. والناس يحبون الفنجان بين مصدق ومكذب، وهي تسأله عن مدى إيمانه بالفنجان، فيجيبها أنه يؤمن بثغرها، فمنه الرضاب والكوثر، فالشاعر لا يركز على الفنجان وما في الفنجان من مشروب مرغوب. ولكنه يتعلق باستقباله لشاربة الفنجان: الثغر والأسنان، البسمة والكأس..

ومجموعة العقاد الخمسة ص (40) وهو إذ يبدأ أبياته بالاستفهام، فإنه يختمها بالجمل الاسمية التي تدل على الثبات.

وفي ديوان محمود غنيم يعمد الشاعر (ج - 611) فيقول:

قد زرت مكتب أحمد فسقاني

سمراء تحكي أعين الغزلان

أنا ما ظفرت بقهوة من أحمد

لكن شربت العلم في فنجان

وشتان ما بين العقاد، وغنيم، وشتان بين مشروب ومشروب.. وبين فنجان وفنجان، فذلك لهنه، وهذا للرجال والبنين.

والشاعر الآخر والأخير، فهو نزار، بعنوان: (قارئة الفنجان) حيث قام بوصف هذه القارئة:

جلست والخوف بعينيها

تتأمل فنجاني المقلوب

قالت: يا ولدي لا تحزن

فالحب عليك هو المكتوب

ثم يدخل في مقارنة بين الفنجانين، فيقول:

بصرت ونجمت كثيراً

لكني لم أقرأ أبداً فنجاناً يشبه فنجانك

بصرت ونجمت كثيراً

لكني لم أعرف أبداً أحزاناً تشبه أحزانك

مقدورك أن تمضي أبداً في بحر الحب بغير قلوع

وتكون حياتك طول العمر كتاب دموع

مقدورك أن تبقى مسجوناً بين الماء وبين النار

وتتوالى المراغمات في كثير من المصارعات، لتمنع اشراق المشهد، وتزيل الآهات من شفاه الصراع.

وكنت أنتظر هذه الحرائق، والبوائق، والأحزان، وشجن الأعاصير، وصراخ الرياح، ونواح الأعاصير، وقد كان:

فبرغم جميع حرائقه

وبرغم جميع بوائقه

وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار

وبرغم الريح

وبرغم الجو الماطر والإعصار

فحبيبة قلبك يا ولدي

نائمة في قصر موصود

ويتحدى نزار مجموعة من الأسئلة التي تشتعل في داخلها الحرائق وهي في مجموعها من الإشارات المستعصية:

من يدخل حجرتها؟

من يطب يده؟

من يدنو من سور حديقتها؟

من حاول فك ضفائرها؟

يا ولدي.. مفقود.. مفقود

ثم يطمئن ولده بعد هذا السيل من الأسئلة الثائرة، وبالعهود الحلوة، يضع بعض الأجوبة، معتمداً على متواليات من خلال التسويفات (السين، وسوف) ويبني في ظل هذه التسويفات آمالاً وأحلاماً طامية.

ستفتش عنها يا ولدي في كل مكان

وستسأل عنها موج البحر، وتسأل فيروز الشطآن

وتجوب بحاراً وبحاراً!

وتفيض دموعك أنهاراً!

وسيكبر حزنك حتى يصبح أشجاراً

وسترجع يوماً يا ولدي

مهزوماً مكسور الوجدان

وستعرف بعد رحيل العمر

بأنك كنت تطارد خيط دخان

فحبيبتك ليس لها أرض أو وطن أو عنوان

ما أصعب أن نهوى امرأة يا ولدي

ليس لها عنوان!

والفنجان وقارئته، يتجهان إلى سعة من الأمر، فهي تكون مستعدة للفنجان وصاحبته. وقد ينشأ بين الفنجان والساحرة، وتشمل مواقعة الفنجان، وتحمل في ثناياها الحقائق وجملة من الحياء، وألواناً من الحياة الصامتة، وكذلك تنهض بنوازع الحياة، ونقاء الروح وبلبال الهموم. وينحني عبد الحليم حافظ هذه النزارية فتزداد شفتيه حلاوة وعذوبة وتصفق لأنغامها الأيام.

د. محمد العيد الخطراوي


 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد