إنها الهدام التي كادت أن تموت في جوف الصحراء كالعادة، ولكنها حربة شقت عن نفسها، لتقول لأولئك الذين يلتمسون خيوط الحاضر ومشارف المستقبل: إن هذه بدايتكم الحقيقية، ويجب أن تنطلقوا منها إذا رغبتم في تأسيس المستقبل.
تلك مقدمة رواية (الهدام) لموسى النقيدان الذي سمى نفسه هشيم الصحراء، معلناً أن فحيح الصحراء يستنطق الرمال، من وحي ما حدث سنة 1376هـ التي يُطلق عليها في القصيم وما جاورها: (سنة الهدام) لكثرة ما سقط من بيوت بسبب الأمطار التي استمرت أربعين يوماً..
تبدأ الرواية في الليلة العشرين من هطول المطر، وتدخل من بيت بطل الرواية وزوجته وتلك الليالي المخيفة حين أدى انجراف السطوح الطينية إلى تعرية الغرف لبيت ظل يقاوم كجبل، لكن يبدو أنه سينهار هذه الليلة.. والمصيبة أنه لا يمكن القيام بأي عمل، فاليد خاوية، والليل طويل وله عواء موحش.. والبرد قارس مميت في العراء.. فأي مصير مجهول ينتظر أولاده النائمين؟
لا بد أن تنام أو تموت! لا بد أن تتناسى صوت سقوط البيوت وهي تهوي كدوي انفجار القنابل تزلزل الأرض.. لعلك تفقد الوعي ولو لساعات قليلة أو لعل خيوط الفجر الأول تلوح.. وفي الفجر انطلق مع زوجته هاربين بالأولاد إلى مرتفع رملي خارج البلدة.. وبعد أن تدبر أمره بخيمة مناسبة ونصبها هناك، استقر بهم الحال بأمان مشوب بالحذر..
بعد ذلك، ماذا تصنع؟ ترفع رأسك تشاهد السماء، تستطلع الساعات القادمة.. في هذه الفترات الضائعة والخالية تماماً من العمل يبدأ الترقب.. والترقب عادة الصحراء الأزلية.. (ينتظرون ماذا؟) ينتظرون ما يوعدون به.. الجميع ينتظر ويترقب معجزة لم ولن تتحقق، حتى لو تحققت سوف تنقلب لعنة عليهم، ستدمرهم.. وعندما يغيرون على بعضهم كعادة الصحراء وينهبون الحلال والجمال، سيأتي في الفجر من يغير عليهم وينهب كل شيء.. هكذا قال الراوي!
وفي الفترات التي تهدأ بها الأمطار تدور أغلب المشاهد الرئيسة في السوق حيث البيع والشراء والصفقات والتحالفات والمؤامرات والدسائس والعاطلون عن العمل ومثيرو الفتن والعراك بالأيدي وتنفيذ العقوبات.. فمن سياقات الرواية: قرر أهل القرى والمزارع وجميع الرعاة أن يصلوا صلاة الجمعة في الجامع الكبير والقريب من السوق من أجل أن يتسنى لهم مشاهدة الذبح عن قرب.. وفي الجهة المقابلة للسوق يجلس المرابون كالوحوش الكاسرة يتربصون بالفريسة من الفقراء الذين تضطرهم ظروفهم للاستدانة..
وإذا كانت رواية (الهدام) كُتِبت من شاهد عيان عما حدث في تلك السنة، فهي ليست توثيقاً ولا تقريراً ولا سرداً حكائياً ساذجاً للأحداث، كما تفعل أغلب روايات هذه الأيام، بل هي زاوجت الوقائع بالخيال عبر التناول الفني العميق للفجائع المرتبطة بتلك الأحداث المرعبة، وغالباً ما تمثل الأحداث ليس حدثها المباشر بل ما وراءها، وتمثل كثيراً من الحالات ليس حالتها المباشرة بل رمزيتها.. كانت ملحمة شعبية ومثيولوجيا صحراوية اختلط بها العقل بالجنون، والجهل بالحكمة، والحياة بالموت، والحب بالكره، والعدل بالظلم، والسياسة بالدين، والفرد بالقبيلة، والوفاء بالخيانة، والبدو بالحضر، والمحلي بالأجنبي، والصراع بالسلام، والحركة بالسكون، والجوع بالتخمة..
بين هذه التناقضات يدور محور الرواية حول صراع القديم مع الجديد وما بينهما.. فالهدام عقاب من الله بسبب البدع الجديدة كالمدرسة والبرقية والسيارة حسب وجهة نظر المحافظين، وهي أيضاً عقاب من الله ولكن بسبب المحافظة على الوضع القائم حسب وجهة نظر المظلومين.. وهي شيء صحراوي آخر عند من يمكن أن نسميهم محايدين.. تقول إحدى الشخصيات: يا إخوان مثل ما تشوفون السياكل والغتر البيض والدخان والصور بدأت تنتشر وباعتقادي أنها بدع جديدة.. وعلى العكس من ذلك تقول شخصية أخرى عن البلدة: إنها تمتلك محرقة تاريخ كغيرها من البلدان الغاشمة التي تتحدى التغيير.. وفي سياق آخر تقول الرواية: الجديد يعتبر آخر، والآخر كافر، والكافر يجب أن يذبح، والذبح حق، والحق مجهول علمه عند خالق الصحراء.. لذا تقرر الذبح لمثيري الشغب..
إلا أن كثيراً من شخصيات الرواية لم تكن ذات طبيعة حدّية أبيض أو أسود، بل كانت متداخلة ممتزجة، وحتى بطل الرواية لا يأتي وسط الأحداث إلا قليلاً، بل حتى زمن الأحداث لم يكن محدداً بتاريخ تلك السنة (الهدام) ولم يكن خطيّاً، بل تداخلت الأزمنة الماضية مع الحاضرة آنذاك مع المستقبل..
ويرسم الراوي الأحداث والحوارات ليصل بالقارئ حد البكاء المفجع حيناً، والضحك الهستيري حيناً آخر.. فمن المبكي عندما ترى أم ابنها الهارب من ظلم البلدة وقد تحول إلى واحد من قطيع كلاب ضالة.. تناديه باسمه بكل حرقة وحنان وهو ينبح تجاهها ويكاد يفتك بها ولو تدخل الآخرون..
ومن الكوميديا: كان عربيد الريشاء يمارس بعض الحركات الإرهابية ولكن ضد حماره لأنه لا يستطيع ممارستها مع الآخرين، وكان يستعمل الرفس والعض.. وكان بعض الناس يعتقدون أنه بدأ يتصرف كالحمار بسبب السنين التي قضاها بمصاحبته...
إنها (الهدام) رواية الصحراء.. الصحراء التي لا تبقي أثراً، والتي تتآمر على ممتلكاتها.. من سنوات عجاف إلى زخات متواصلة.. في سنوات القحط يموت كل شيء ويتغير، وتزداد النفوس شراهة للحرب والغارات.. تشم رائحة الدم والبارود وتبدأ أغاني الحرب والموت.. وتتفكك المحالفات والمعاهدات، والجميع يتآمر على الجميع، حتى الحيوانات والحشرات تحارب لتستولي على ما لدى الآخرين.. أما في سنوات الغيث تتحول الأنفس وتميل للسكينة والكرم وتغدو جميع الشروط مقبولة.. يقول بطل الرواية: كل شيء يأتي في هذه الصحراء بقوة حتى الموت والحياة وعندما يأتي فإنه يدمر! المعادلة الأساسية فيها (يا ظالم يا مظلوم) وإذا قامت الصحراء بتجربة العدالة فإنها تنسلخ عن لونها وتتخذ شعاراً جديداً لا يلائم ملامحها..
وتنتهي الرواية مع تمام الأربعين يوماً حين اختفت السحب وعاد الناس إلى منازلهم، لكن النهاية مفتوحة.. فالناس تنتظر هداماً أخرى ستأتي كما يتبصر الراوي.. فبعد عقود أخرى أثناء الهدام الأخيرة كان الجدل يدور على أشده حول سؤال يقول: هل يجب على المرأة أن تتحجب عن القمر؟.. وفي الخاتمة، هناك شيخ عجوز كان من أبطال الهدام الأولى، يجلس في زاوية الطريق بين المارة ويهذي: القمر صخرة تعكس ضوء الشمس، ثم قام وقال: أيها المعذبون الجدد يا أبناء المعذبين القدامى أوقفوا زحف الرمال واقتلوا الصحراء أولاً!!
لم تكن الرواية من النوع العادي بل تحفة فنية بديعة، رغم ما شابها في مواضع قليلة من أخطاء ثانوية وارتباك في الصياغة تحتاج مراجعة من ناحية التحرير الكتابي فقط.. وفي كل الأحوال، فإن تلك النهاية المفتوحة تجعلنا نأمل أن ثمة رواية أخرى قادمة من هشيم الصحراء، الذي يقول: عندما ينظر الناس إلى السماء مرة واحدة، ينظرون أيضاً إلى الأرض مرتين لأنها البداية والنهاية.
alhebib1@yahoo.com