لا شك أن هناك ضرورة حتمية لنشر الثقافة المهنية لدى المجتمع لتزويد أبنائه بأبجديات أهمية العمل وتعويده على مبادئ وقيم العمل وخلق الالتزام الذاتي لديه. كنت قد استبشرت خيراً كثيراً حينما تم إدخال مادة التربية الوطنية ضمن خطة.
وزارة المعارف آنذاك كمدخل لمزيد من المناهج الباعثة على زيادة وعي أفراد المجتمع بأهمية وضرورة قيمة العمل وليس العمل بحد ذاته.
يشتكي كثير من أرباب العمل اليوم من عدد من العوامل المؤثرة سلباً على استمرار الموظف السعودي في وظيفته، ويتعذرون كثيراً بعدم اهتمام الشاب السعودي بطبيعة العمل وعدم التزامه بمواعيد الحضور والانصراف، وبحثه المستمر عن عمل يدر عليه دخلاً إضافياً في الوقت الذي يتعذر الشاب السعودي بأمور أخرى كتدني المرتبات وطول ساعات العمل ومحاربة زملائه له وغيرها من الأسباب التي إن تم بحثها بشكل دقيق ومتأن لوجدنا أن السبب الرئيس في ذلك هو غياب ثقافة المهنة لدى الشاب وغياب التثقيف السيكولوجي لدى كليهما؛ رب العمل والعامل على حد سواء.
لا شك أن هناك ضرورة متزايدة لنشر الثقافة السيكولوجية أو النفسية جنباً إلى جنب مع ضرورة نشر الوعي الأمني والغذائي والصحي والقومي والاقتصادي والوطني. فعلم النفس لم يعد اهتمامه اليوم مقتصراً على علاج الأمراض الذهانية المعروفة، بل امتدت خدماته لتشمل المساعدة فيما يتعرض له الإنسان من ضغوطات الانفتاح العصري على جميع أصعدته، بل ربما يعني ذلك المساهمة في الوقاية مما قد يصيب الإنسان من أمراض نفسية عصابية قد تتحول بفعل المحذور الاجتماعي بالتردد في معالجتها إلى أمراض عقلية ذهانية.
أصبحت الحاجة ملحة اليوم للتثقيف السيكولوجي لجميع شرائح المجتمع دون استثناء لمواجهة ما يتعرض له الإنسان من التوترات والصراعات والتأزم والتنافس الحاد والبغيض ومن ارتفاع مستوى طموحه وتطلعاته عن حد اقتداره أو ما يتوفر لديه من الإمكانات الذاتية والخارجية. ولحماية الفرد بجميع مراحله العمرية مما قد يتعرض له من سوء معاملة أو جهل بأصول التعامل العلمي الصحيح، الأمر الذي يمنع تعرض الطفل مثلاً إلى خبرات القسوة والعنف والتردد والبغض والطرد والنبذ والكره والإهمال والفشل والإحباط والمعايرة والتوبيخ والتعنيف، أو ربما الإسراف في الحماية والتدليل فيصبح الأول شاباً مريضاً لا يستطيع التكيف مع مجتمع العمل بشكل خاص والمجتمع بأكمله بشكل عام، فيما يصبح الثاني شاباً طاغية في محيطه وفي المجتمع بشكل عام.
من المفاهيم الأساسية والأنشطة العلاجية والمهنية في علم النفس التي يتضمنها الوعي السيكولوجي الوقاية والتشخيص والإرشاد والعلاج والتي تستخدم في مواجهة ما يقابل الإنسان من الأزمات على جميع الأصعدة. لذلك لم يعد علم النفس قاصراً كما ذكرت آنفاً على علاج الحالات المرضية فقط بل تمتد خدماته للاهتمام بتقديم المساعدة لطوائف سوية كثيرة وفي مجالات متعددة منها رجال الأمن والجيش والقوات المسلحة عموماً ورجال التربية والتعليم ورجال الصناعة والعمل والعمال والإنتاج وفي مجالات السياحة والتجارة والحرب والبيئة والتنمية والموارد البشرية، بل لعل المجال الأخير من أكثر المجالات التي ربما يستفيد من خدمات علم النفس في عدد من النواحي مثل الاختيارات المثلى للعاملين ودراسة وضع الموظف المناسب في المكان المناسب ومعالجة ضغوطات العمل والإحباطات وخيبات الأمل ورداءة الأداء وانخفاض الإنتاج مما يؤدي إلى رفع الإنتاجية وتقليل حالات التمرد والعصيان وزيادة رضا الموظف تمهيداً لتعزيز شعوره بالانتماء ومعالجة تمارض الموظفين وتقليل حالات الغياب والحوادث ورفع الروح المعنوية.
لعل البطالة بمفهومها المتعارف عليه بحسب علمي هو أكثر ما يؤرق القائمين على وزارة العمل، واختلافي هنا مع الوزارة ليس بحجم الاهتمام التي توليه لقضية البطالة وإنما بتعريف الوزارة للبطالة والآليات المستخدمة لتوصيف البطالة كماً ونوعاً، إن البطالة بمعناها البسيط هي حالة عدم استخدام الأشخاص القادرين على العمل الذين لديهم فرص سانحة للعمل، وهذا لا اختلاف فيه، ولكن مفهوم البطالة الأخطر في رأيي له شقان، الأول أن البطالة مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بالقيمة الذاتية للفرد وباعثاً له لتبرير وتشريع ارتكابه لمنافي الأخلاق وهذا لا يخفى على عاقل، والشق الأكثر خطورة هو عندما تستوي البطالة مع العمل غير المناسب في تأثيرها الضار على الصحة النفسية للفرد وفي الإصابة بالأمراض العصابية النفسية، فهناك حاجة بيولوجية لدى الإنسان لممارسة نشاط ما وإحباط هذه الحاجة يحدث اضطراباً داخلياً لديه ويجلب الملل ويولد النفور، وقد يؤدي إلى الأمراض العقلية، بالإضافة إلى أن العمل له قيمة اجتماعية ويضفي على الفرد احتراماً من مجتمعه يحس من خلاله بالأمان، وتعني البطالة تفككاً في أنماط الحياة التي نسجها الفرد لنفسه، الأمر الذي قد يؤدي بالإنسان إلى نتائج لا تحمد عقباها.
إن البطالة المقنعة لهي أشد وطأة وأكثر خطورة على صحة الفرد النفسية، كما أسلفت، ودور وزارة العمل في رأيي هو العمل على البدء بوضع تعريفات واضحة لأنواع البطالة سواء أكانت بطالة عامة أو مزمنة أو دورية أو موسمية أو تكنولوجية أو مقنعة ومن ثم رسم إستراتيجيات وسياسات واضحة وواقعية التطبيق تأخذ بعين الاعتبار عدداً من العوامل، منها العامل الزمني والتزايد المتوقع لبعض أنواع البطالة والوسائل الكفيلة بالقضاء عليها. لقد نهجت عدد من الدول المتقدمة الاستعانة بالقطاع الخاص المتخصص في هذا المجال لعدد كبير من الأسباب التي لا تخفى على القارئ الكريم، وقد حقق ذلك نتائج مذهلة، وأنا هنا لا أقلل من كفاءة العاملين بالقطاع العام، وإنما أحرص لإيجاد وقت كاف لهم لممارسة الأعمال الأخرى المناطة بهم وإيكال مهمة دراسة ما سبق للقطاع الخاص. فهل يتحقق ذلك؟.. سؤال لمعالي وزير العمل.
dr.aobaid@gmail.com