ولقد قلت من قبل: إن كلمة (نَقْد) مصطلحٌ مشاكسٌ، وهو في الجملة ذو أبعاد متعددة: تاريخية وفنية ووظيفية وآلية ومجالية، وله عناصره وعلومه وطرقه ومقاييسه، بحيث لا يكاد يستقر حتى ينهض من جديد...
كأقوى ما يكون النهوض، وأبعد ما يكون الانطلاق، وكلما زاد المتقصي تعمقاً فيه زاد انبهامه، وتلك سمة المصطلحات المفتوحة، تظل في تحول وتبدل واتساع مستمر. على أن ذلك الاندياح الدائري، يفتق الأذهان، ويثري المعارف، ويعدد الخيارات.
وكل مصطلح مفتوح على كل الاحتمالات يعد ظاهرة استثنائية لا يروض جماحها إلا من له قدرات استثنائية، والمتعقب لأي حركة نقدية من خلال مقطع زمني أو مجال جغرافي، لا يجد بداً من امتداد النظرة إلى ما سلف من حركات، وما هو معاصر من مذاهب وظواهر وتيارات، فالعلوم الإنسانية محكومة بالتفاعل والتعالق، وقد يقوى جانب منها فيطغى على سائر الجوانب، وقد لا يكون البقاء للأصلح، ولكنه للأقوى وللمتمكن الأمكن، ونفاذ المذاهب والمناهج والآليات محكوم بالإمكانيات، وكم من تجربة منعت تجارب لأنها لم تكن على قدر من السلامة والنضوج، والنقد الأدبي العالمي خَبَّ ووضَعَ في كل أنواع المعرفة الإنسانية وأغرى النقد العربي بذلك.
والشيء الذي نسلم له ولا نجد بداً من الاعتراف به أن النقد الأدبي الحديث يستمد لحمته وسداه من خيوط النقد الغربي المعاصر بكل ما هو عليه من جرأة في التجريب، وذلك منذ بداية التواصل مع المشاهد الأدبية والفكرية الغربية عبر طرق شتى، لا حاجة لنا بحصرها لأنها معلومة من الواقع بالضرورة،
ولقد كانت له من قبل سماته وآلياته ومناهجه، التي لا ينكرها إلا مغالط وهي سمات تقصتها مجملةً أو مفصلةً كتبٌ اعتمدت سائر المناهج، واتسعت لكل الأنواع، بحيث تناولت التفكير النقدي المعرفي والمعياري والذوقي الساذج، وتاريخ النقد واتجاهاته ونظريات الأدب والشعر، كما تقصت مفهوم الأدبية والشعرية وأسس النقد وأصوله وتحولاته في كل عصر من العصور ومناهج التأليف عند أصحاب الأمالي والطبقات والتراجم والمختارات والموسوعات،
كما خص النقاد والدارسون والشارحون والموسوعيون والبلاغيون الأقدمون بدراسات مستقلة تجلت فيها إمكانياتهم ومناهجهم وآلياتهم واتجاهاتهم واهتماماتهم المراوحة بين اللغوية والدلالية والفنية والتاريخية، الأمر الذي حقق السبق والتميز والتأثير المبكر، وهو ما تقصاه الدارسون للأدب المقارن، وأثبتوا من خلاله بصمات المذاهب النقدية العربية وبخاصة (الأدب الشعبي) على بدايات النقد والأدب الغربيين عبر الفردوس المفقود وهذا التقصي يثبت مكانة النقد العربي. وريادته الإنسانية لا تستدعي استغناءه وانغلاقه، والنقد العربي القديم بكل ما هو عليه من تعدد في الاهتمامات لا يُستغنى به ولا يستغنى عنه، وتواصله القوي وتشكله المتنوع لا يُقْبل على إطلاقه، ولا يرد على إطلاقه، فالمثاقفة بين الحضارات من الحواتم المقضية وهو سرُّ التجذر في التفاعل المتوازن، إذْ ما من حضارة مستبدَّة إلا هي مجموعة حضارات مهضومة، وليس هناك حضارة بريئة لا تكون مستوعبة لما سلف استيعاب انتقاء وتهذيب وتمثل غذائي، وإذ نسلِّم بأن الحضارة الغربية تقدمت في الكثير من ظواهر الحياة الدنيا فإنها الأقدر على فرض ثقافتها، ولقد مكن لها في سائر المشاهد تباهي التابع بمحاكاتها، وهو ما كان للحضارة الإسلامية إبان ازدهارها في الأندلس، وتلك رؤية (ابن خلدون) في تقليد المغلوب للغالب. والتعالق حين يكون عن وعي، وحين يلبي حاجة قائمة ويكون بمقدار يثري معارف الأمة، ويمكنها من الإسهام في بناء الحضارة الإنسانية واستثمار تجاربها، غير أن استقبال الآخر تَحوَّلَ مِن الأخذ بمقدار وندِّية إلى التهافت والذوبان، مما عرض مثمنات الأمة ومحققات وجودها الكريم للتشويه وأدى إلى التفكك والتنازع واضطراب وحدتها الفكرية، وعرضها لعقد الخوف والتردد، والصدام بين أطيافها واعتزال البعض، الأمر الذي فوَّتَ فرص الاستثمار المحقق للوجود الكريم
والنقد الأدبي المعاصر مَسَّه الضر الذي مَسَّ كثيراً من التحولات المدنية والحضارية، على أن الراصد المنصف والحكم العدل يتقي التعميم في الأحكام، إذ ما كان لنا أن ننكر استفادة النقد العربي المعاصر من مستجدات النقد الأدبي الغربي، وتحفظنا لا يمتد إلى التعالق المشروع، واستياؤنا لا ينكر الاستفادة من تحولات النقد الغربي، وقدر الأدب والنقد أن يكونا تابعين
ومثلما أن الخصوصية والذاتية سمتان لأي حضارة ذات عمق تاريخي ومرجعية نصية فإن الإفراط في الادعاء يؤدي إلى التعاظم العِظامي، وضرره لا يقل عن ضرر الدونية والتخاذل والشعور بالنقص.
وجماع الأمر أن تكون النخب على بينةٍ من أمرها، بحيث لا تفوِّت فرص الاستفادة، ولا تذوب في الآخر، وما أضر بمصالح الأمة إلا الإفراط أو التفريط، وعدم التفريق بين التعالق المشروع والتهافت المعيب.
والحديث عن تحولات مركز الكون النقدي لا ينْفك من استدعاء الروافد والمؤثرات والتعالق غير السوي مع مستجدات النقد الغربي، ومجمل التحفظات لا تحجِّرُ واسعاً، ولا تمنع مباحاً، ولكنها تحاول تفادي التهافت والانبهار، وتحول دون القطيعة مع التراث بوصفه البنية التحتية للتجديد
ومن البدهيات أن الموروث النقدي لم يكن مُحرر الاهتمامات بالقدر الكافي، وإنما كان النقاد الأوائل يراوحون بين الترجمة والجمع والتفسير والأحكام المعممة والتجزيئية والأجواء والمناسبات، حتى إذا جاء العصر الحديث مستوعباً للتراث والمعاصرة في بعض محطاته أصبح فيه المبدع مركز الكون النقدي، مما استدعى البيئة وتاريخ العصر وظروفه السياسية والدينية والاجتماعية وسائر أحوال المجتمع، وتمركز الكون النقدي في رحابه استدعى مناهج وآليات عرفت ب(تاريخ الأدب العربي) مسترفدة معارف وعلوم أسهمت في خدمة المبدع وتأصيله ك(علم النفس) و(علم الاجتماع) و(نظرية الأجناس) وتاريخ الأدب الجغرافي الذي يركز على أدب الرحلات والنظرية الإقليمية بوصفها تمثل البيئة الجغرافية. وكل هذه الأشياء تأتي في التراث على شكل ومضات، ولهذا يمكن التماس الظواهر الحديثة كلها من تلك الإلماحات العجلى، ولم يتبد التأصيل المعرفي إلا على يد (الجرجاني) حين حرر نظرية (النظم). والبلاغيون جملة أقرب إلى التحرر والتأصيل وتاريخ الأدب وربط الإبداع بالبيئة والمجتمع والأحوال النفسية والاجتماعية ينهض بها عمالقة الفكر العربي الحديث ك(العقاد) و(طه حسين) وشايعهم من مارس التاريخ والدرس، ك(جرجي زيدان) و(الزيات) وخير من يمثل هذا الاتجاه في العصر الحديث (شوقي ضيف) في كتابه الموسوعي (تاريخ الأدب العربي) الذي نيف على عشرة أجزاء ضخام، ومن حوله برزت دراسات دون ذلك عند (محمد زغلول سلام) و(حنا فاخوري) و(عمر فروخ) ومن المستشرقين: (بلاشير) و(كارلونالينو) و(نكلسن) و(جب) وقد انعكس أثر هذا المنهج على الحركة النقدية في بداياتها، نجد ذلك عند (محمد سرور الصبان). وعبدالله بالخير والخوجة والساسي وابن إدريس والعبِّيد والعقيلي وآخرين.
ومؤرخو الأدب عامة يؤكدون سلطة المؤلف وأهميته، ولعل التاريخ الأدبي ظل مُحتفظاً بمنهجه وغاياته فيما اتجه سائر النقاد والدارسين صوب النص محتفظين بشيء من أهمية المبدع، ولكن اهتمام لا يبرح التوفر على أجواء النص والمناسبة لمساعدة الدارس التحليلي على استكناه الدلالة وإدراك النوازع.
وتلك المناهج التي استجابت لسلطة المؤلف تقصاها ونظر لها دارسون أكاديميون أمثال (شكري فيصل) في كتابه (مناهج الدراسة الأدبية في الأدب العربي) فلقد عرض لنظريات النقد والدراسة والتأريخ متخذاً محاور العرض والنقد والاقتراح عضداً لرؤيته التأسيسية لمنهج جديد، لقد تناول نظرية الفنون والأجناس والنظرية الثقافية من حيث الأصول والمعالم والتطبيقات. ونظرية المذاهب الفنية والإقليمية ممارساً التاريخ والتأصيل والوصف والنقد، وهذه الدراسة وما واكبها من دراسات مماثلة لا تبرح الاهتمام بالمبدع بوصفه مركز الكون النقدي إذ ذاك.
وتأتي الدكتورة (خيرية إبراهيم السقاف) في دراستها عن (مناهج دراسة الأدب العربي وتدريسه في الجامعات العربية) متقصية تنقلات مركز الكون النقدي، مستوفية تحولات الاهتمام في التراث والمعاصرة.
حيث قسمت الحقبة التراثية إلى ثلاث مراحل؛ مرحلة الذوق الخاص والنظرة الجزئية واحترام قيم المجتمع والمحافظة، ومرحلة المعيارية الأخلاقية والاجتماعية والنفسية وتوازن العقل والعاطفة عند تفسير الأدب، ومرحلة الاعتماد على فلسفة اللغة في إدراك الجمال كما هو في دلائل الإعجاز، ثم تخطت إلى المناهج والآليات الحديثة كما هي في مشهد الدراسات النقدية، وبخاصة الاتجاه المعياري، أو النقد المعرفي القائم على العلم لا على الذوق والانطباع.
يتبع