إن عالم اليوم لا تهيمن عليه قوة واحدة أو قوتان أو قوى متعددة، بل تهيمن عليه العشرات من المنظمات الحكومية وغير الحكومية التي تمارس أشكالاً متنوعة من القوة. كان العالم في بدايات القرن العشرين تحت هيمنة بضع دول، ثم أثناء الحرب الباردة، كان تحت هيمنة دولتين، وأخيراً وبعد انتهاء التفوق الأمريكي في فترة ما بعد الحرب الباردة، أصبح الطريق ممهداً أمام القرن الواحد والعشرين الذي لم يعد تحت هيمنة أحد. ونستطيع أن نطلق على هذا الوضع (اللاقطبية).
يرجع الفضل في الوصول إلى هذه النتيجة إلى ثلاثة عوامل. الأول، اكتساب بعض الدول للقوة بعد زيادة ثقلها الاقتصادي. الثاني، ضعف الدور الذي تلعبه الدول نتيجة للعولمة التي مكنت كيانات أخرى من استجماع قدر كبير من القوة. والثالث، تسارع الانحدار النسبي للولايات المتحدة في مواجهة (الآخرين) نتيجة للسياسة الخارجية التي تنتهجها. والنتيجة عالم أصبحت فيه القوى تتوزع على نحو متزايد بدلاً من أن تتركز.
وقد يكون نشوء هذا العالم اللاقطبي أمراً سلبياً وليس إيجابياً، حيث ستتفاقم صعوبة التوصل إلى استجابات جماعية في مواجهة التحديات الإقليمية والعالمية الملحة. فكلما زاد عدد صناع القرار أصبح اتخاذ القرار أكثر صعوبة. وتعمل اللاقطبية أيضاً على زيادة عدد وشدة التهديدات، سواء من جانب الدول المارقة، أو الجماعات الإرهابية، أو الجماعات المسلحة.
إلا أن شخصية هذه اللاقطبية وسماتها قد لا تكون محتمة. إذ إننا نستطيع أن نفعل الكثير لصياغة وتشكيل هذا العالم اللاقطبي. ولكن النظام لا ينشأ من تلقاء ذاته. وإذا ما تركنا اللاقطبية لتتدبر أمورها بنفسها فلسوف تسود العالم الفوضى مع الوقت.
إن مقاومة انتشار الأسلحة النووية والمواد النووية غير المحمية لا تقل أهمية عن أي مهمة عالمية أخرى. وإذا ما تم تأسيس بنوك ذات إدارة دولية للتعامل مع تخصيب اليورانيوم واستهلاك الوقود، فقد يصبح بوسع الدول أن تحصل على الطاقة النووية دون أن تتمكن من السيطرة على المواد اللازمة لتصنيع القنابل النووية. ومن الممكن تقديم الضمانات الأمنية وإنشاء الأنظمة الدفاعية لصالح الدول التي قد تشعر بالحاجة إلى تطوير برامجها النووية الخاصة حتى يعود التوازن بينها وبين أي دولة نووية مجاورة لها. ومن الممكن أيضاً الاستعانة بالعقوبات الصارمة للتأثير على سلوك الدول الراغبة في الحصول على السلاح النووي.
وتشكل مكافحة الإرهاب قدراً عظيماً من الأهمية إن لم نكن نريد لعصر اللاقطبية أن يتحول إلى عصر مظلم حديث. وهناك العديد من السبل لإضعاف المنظمات الإرهابية القائمة بالاستعانة بالمعلومات الاستخباراتية، ومصادر فرض القانون، والقدرات العسكرية. بيد أن كل هذه الجهود قد تكون بلا جدوى إذا لم نفعل شيئاً لإضعاف قدرة هذه المنظمات على تجنيد الناس والحصول على الموارد.
يتعين على الآباء، والشخصيات الدينية، والزعماء السياسيين أن يدينوا الإرهاب وكل من يتبناه أو يناصره. ومن الأهمية بمكان أن تبحث الحكومات عن السبل اللازمة لاستيعاب الشباب المستغرب في مجتمعاتها، وهو الأمر الذي يتطلب توفير قدر أعظم من الحرية السياسية والفرص الاقتصادية.
وقد تعمل التجارة أيضاً كقوة لا يستهان بها في عالم اللاقطبية، وذلك بتحفيز الدول وحثها على تجنب الصراعات، وتوليد الثروات، ودعم المؤسسات السياسية المحلية، وبالتالي تقليص فرص فشل الدولة. وإلى هذه النقطة، ينبغي لنطاق منظمة التجارة العالمية أن يمتد من خلال المفاوضات إلى المزيد من الترتيبات الدولية اللازمة لتخفيض دعم الدولة وإزالة الحواجز الجمركية وغير الجمركية.
قد يتطلب الأمر قدراً مماثلاً من الجهد لضمان استمرار تدفق الاستثمارات. وينبغي أن نسعى إلى إنشاء منظمة عالمية للاستثمار، والتي سيكون بوسعها، من خلال تشجيع تدفق رؤوس الأموال عبر الحدود، أن تقلص من خطر (النزعة إلى الحماية) التي من شأنها أن تعوق الأنشطة المفيدة اقتصادياً، مثل التجارة، وأن تقيم الحصون السياسية اللازمة لحماية الاستقرار. وقد يكون بوسع المنظمة العالمية للاستثمار أن تشجع على الشفافية من جانب المستثمرين، وأن تقرر متى يكون الأمن الوطني سبباً مشروعاً لمنع أو تقييد الاستثمارات، وأن تؤسس آلية قادرة على فض النزاعات.
كما يتطلب الأمر بذل المزيد من الجهد من أجل منع فشل الدول والتعامل مع العواقب المترتبة على ذلك الفشل. ويتعين على الولايات المتحدة وغيرها من الدول المتقدمة أن تعمل على التعزيز من قدراتها العسكرية من أجل التعامل مع التهديدات، كتلك التي تواجهها الآن في العراق وأفغانستان. هذا فضلاً عن ضرورة تأسيس مجموعة من المواهب المدنية للمساعدة في المهام الأساسية الخاصة ببناء الدولة. ومن الضروري أيضاً توفير قدر أعظم من المساعدات الاقتصادية والعسكرية من أجل زيادة قدرة الدول على تحمل مسؤولياتها أمام مواطنيها وجيرانها.
سوف تلعب التعددية دوراً حاسماً في عالم اللاقطبية. ولكن لكي تنجح التعددية فلابد من إعادة صياغتها بحيث تتضمن كيانات غير القوى العظمى. ولابد من إعادة هيكلة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة ومجموعة الثماني على النحو الذي يعكس العالم الذي نعيش فيه اليوم وليس عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. ويتعين علينا أيضاً أن نحرص على السماح للمنظمات غير التابعة للدول بالمشاركة في المؤسسات التعددية.
ربما كان من الضروري أن تكون التعددية أقل شمولاً وأقل رسمية، في البداية على الأقل. ولسوف يتطلب الأمر إنشاء الشبكات إلى جانب المنظمات. إذ إن حمل الجميع على الموافقة على كل شيء ليس بالمهمة السهلة، لذا يتعين علينا أن نفكر في عقد الاتفاقيات مع أطراف أقل عدداً والعمل على تحقيق أهداف أقل اتساعاً.
وهنا يتجلى الدور النموذجي الذي تلعبه التجارة، حيث تعمل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية على سد الفراغ الناجم عن الفشل في التوصل إلى عقد جولة تجارية عالمية جديدة. ويصدق نفس القول على مسألة تغير المناخ: فقد يكون من المجدي أن يتم الاتفاق على جوانب معينة من المشكلة (ولنقل قضية إزالة الغابات)، أو إشراك بعض الدول فقط (الدول الرئيسة المتسببة في انبعاث الغازات الكربونية على سبيل المثال)، بينما قد تكون الاتفاقيات التي تضم كل الدول وتحاول إيجاد الحلول لكل المشاكل أقل جدوى.
من المرجح أن تكون التعددية (الفئوية) هي النظام الأمثل لعالم اليوم. وقد يكون هذا النظام بعيداً عن الكمال، ولكن في عالم اللاقطبية قد يكون الأفضل متناقضاً مع الممكن.
* المدير الأسبق لتخطيط السياسات بوزارة خارجية الولايات المتحدة، ورئيس مجلس العلاقات الخارجية. وهذا المقال مستقى من مقال نشر في عدد مايو - يونيو من مجلة الشؤون الخارجية Foreign Affairs .