لا تقل لأحد أن الطبيب هو الذي وجد ضالته في هذا العصر (يعني بالعربي: لقاها)، ولا تحاول أن تقنع من حولك بأن كل الأطباء أو معظمهم لا يزالون في تلك الأبراج العاجية اللامعة. أبداً لم تعد تلك الحالة موجودة الآن، إنما نراها وقد تحولت مع الوقت الطويل من التأمل والإغراق في الوصف والتمثل إلى قرار القمقم المعتم.
لم يعد الطب - فيما يبدو - هو الرسالة الإنسانية الخالصة كما علمتنا الأحلام الخيالية، ولم يعد ذلك الهم الرائع والمثال الذي ظل لقرون أو لآلاف السنين إنما تحول إلى مهنة باتت تقارب الوظيفة التي تدير أمرها في كل الجهات فلا تجد لها معنىً أو مقاماً غير البحث عن الرزق.
تحول الطبيب مع الزمن إلى مجرد عضو في مجموعة.. أو (عود ضمن حزمة).. ذلك أن الهَّم ظل يكبر وأصبح الطبيب بمختلف تخصصاته ودرجاته يقف في طابور المراجعين في أي مصلحة، ويصلح سيارته في أي منطقة صناعية أو ورشة، ويخرج إلى البر. بل نراه يقترن بشريكة عمره من خلال أقساط تسهل مهمة الزواج، بل يتأكد لنا أنه مهموم بأمر (أقساط سيارة) من أجل توسيع عيادته أو بناء بيته.
لم يعد الطبيب على نحو ما يرد في المسلسلات والشعر، والروايات، إنما أصبح أكثر واقعية، وقرباً من الناس، وهذا هو بيت القصيد، إذ إن مهنة الطب هي هذا البعد الإنساني الخالص حتى وإن واجهته العديد من المصاعب والمثبطات، بل هو الجدير بالاحترام لأن مهنته هي من أرقى المهن لما لها من طابع إنساني عميق عرف عبر التاريخ.
الطبيب والممرض وفني الأجهزة والصيدلاني أصبحوا مكملين لبعضهم بعضاً، فلا يمكن لنا في هذا الزمن العصري أن نفصل عمل واحد منهم عن الآخر، لأن الرسالة واحدة والهدف هو خدمة الآخر من خلال محاولاتهم مساعدته على استعادة عافيته وتقديم خدمة طبية ترعاه وتقيل عثار حياته.
صور كاريكاتورية نطالعها أحياناً وتثير في الذات أسئلة وتوجساً حينما نسمع بممرض يدير مستوصفاً حكومياً أو أهلياً أو مواطناً يعاني من آلام خفية يذهب إلى صيدلي.. فالطب لم يعد بالبركة بل أصبح علماً لا يمكن له أن يخترق من خلال شعوذة أو عزائم أو أعشاب أو نفاث أو رقيا. فالمهام الطبية الآن أضحت تتشكل على هيئة علوم مختلفة يتخصص فيها الطلاب ويتعمق فيها الأطباء من خلال البحوث والدراسات التي قد تأخذ منهم عدة أشهر أو أعوام.
سيظل الطب متداخلاً مع حياة المجتمع وقريباً من همومه وآلامه، فلم يعد ذلك الحلم الوردي لأبناء الذوات، إنما أصبح شرفاً ومجداً الكل يرنو إليه رغم التعب والعناء الذي يجعل من هذه المهنة رسالة خالدة تضوع نبلاً، وترقى في معارج الشهرة والمجد، لكن ليس كمجد المادة، إنما مجد الإنسان الذي يتفانى من أجل الآخر خدمة لرسالته وتخفيفاً من مصاب حوله، وهو في الأساس دين يرده الإنسان إلى وطنه وأمته.
hrbda2000@hotmail.com