كان من بين ما ورد في الحلقة السابقة إشارات إلى المغرب في قصائد سبق أن كتبتها قبل زيارتي الأولى لتلك البلاد الجميلة، تراثاً محافظاً عليه وحاضراً يبهج النفوس في كثير من ملامحه، وبعد الزيارة الأولى. ومما ورد في تلك الحلقة، أيضاً، الإشارة إلى انفتاح باب المعرفة بتاريخ المغرب على مصراعيه أمامي مع تقدم مسيرتي الدراسية،
وطناً دخله الإسلام.. نور الهداية، فأصبح أهله في طليعة حملة ذلك النور، وإضافة إلى تلك المعرفة أدركت من خلال القراءة ونتيجة لما كتبه أستاذي وأستاذ جيلي الشيخ حمد الجاسر، رحمه الله، ما كان من فضل للرحالة المغاربة عبر القرون على دارسي تاريخ جزء عزيز من وطننا الكريم، وهو الحجاز بما فيه مكة والمدينة، ذلك أن كتابات أولئك الرحالة قد ألقت كثيراً من الأضواء على هذا التاريخ، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وعلمياً.
كانت أولى زياراتي للمغرب في شهر ذي الحجة من عام 1392هـ، وكنت حينذاك قد عدت إلى وطني العزيز بعد أن حصلت على درجة الدكتوراه من جامعة أدنبرا في اسكتلندا، ولما أباشر عملي التدريسي بعد في قسم التاريخ بجامعة الملك سعود، وكان عدم انشغالي بالعمل دافعاً لي كي أنتهز فرصة إتاحة الخطوط المغربية الفرصة للسفر على متنها مجاناً، أو بسعر زهيد، قبيل أيام الحج بشرط أن تكون العودة من المغرب بعد أيام قليلة من انتهائه، وسبب قيام الخطوط بذلك معروف، وكان بعض مَن أقلَّتهم الطائرة من جدة إلى الدار البيضاء - مع الأسف الشديد - أناساً بدا من تصرُّفهم الفج أنهم لا يراعون ما ينبغي أن يتحلَّى به مواطنو هذه البلاد العزيزة من مراعاة للأنظمة. وكان من ذلك أنهم هجموا على مكان إعداد الطعام المجهز للركاب، ولم يغادروه إلا بعد مناشدة استعطافية من قائد الطائرة. وللمرء أن يتصوَّر مدى ألم ذلك التصرُّف لمشاعر من قضى سنوات في بلاد تحترم الأنظمة.
على أني ما إن وصلت إلى الدار البيضاء حتى أقفلت جميع النوافذ التي تذكرني بما حدث في الطائرة لأتفرَّغ للتمتُّع بما في بلاد المغرب الجميل من روعة الطبيعة وأصالة التراث. كنت قد عرفت ما عرفت عن المغرب، تاريخاً وتراثاً وجمالاً، عبر قراءات دامت سنوات وسنوات. لكن الفرصة أتيحت لي، في تلك الرحلة؛ كي أرى رأي العين ما كنت أعرفه قراءة. ولا تسل عن سعادتي بما رأيت وما وجدته من مودَّة لدى من أسعدني الحظ بمعرفتهم من أهل المغرب. ومما حدث لي هناك أني رغبت أن أشاهد أداء ملك المغرب لصلاة عيد الأضحى.. كيف يتم وصوله إلى المسجد.. وكيف ينصرف عنه بعد أداء الصلاة والاستماع إلى الخطبة. وعلمت - مما نشرته وسائل الإعلام - أنه سيؤدِّي الصلاة في مسجد القصر بالرباط، فذهبت إلى هناك مرتدياً ثيابي السعودية.. كما هي عادتي في كثير من أسفاري وتجوالي في الأقطار العربية.. ولما وصلت إلى بوابة القصر قال لي الضابط الواقف عندها: هل لديك دعوة؟ قلت له: لا. قال لا بد من دعوة. قلت: أعان الله الجميع. في وطني إذا لم يذهب المرء لأداء الصلاة في المسجد يعاتب، وقد يؤدَّب، وأنت الآن تمنعني من الدخول لأداء الصلاة في المسجد إلا بدعوة رسمية! فابتسم، وقال: أنت من أين؟ قلت له: من المملكة العربية السعودية.. من بلاد الحرمين الشريفين. فقال: أين الهوية؟ فأريته جواز سفري. فقال بلطف: تفضل. ودخلت، ومضيت إلى المسجد.
ثم جاء الملك، وأُدِّيت الصلاة. فخرجت، ووقفت مع الواقفين لأشاهد كيفية مسيرة الملك من هناك عائداً إلى قصره.
بعد أن مضى الملك بموكبه تقدَّمت إلى اثنين من الرجال الواقفين، وقلت لهما: إلى أين يذهب الناس الآن؟ قالا: إلى بيوتهم. قلت: والذي ليس لديه بيت في هذه البلاد؟ قالا: تفضل معنا.. أنت من أين؟ قلت من السعودية وركبت معهما السيارة إلى بيت أحدهما، فقدَّم لنا شاياً مغربياً ومعه خبز رقيق لذيذ، إضافة إلى دفء الترحاب وحلاوته. ثم غادرت بيته مع صاحب السيارة، الذي أخذني إلى منزله، وهناك قدَّم لي قهوة، ثم صعد بي إلى سطح المنزل ليريني (الحولي)، أي الكبش الذي سيذبحه أضحية. وبعد أن فحصته أثنيت عليه بما أعرفه عن الغنم وما يتطلبه المقام من مجاملة. وكان مضيفي ينتظر أخاه الأصغر منه ليقوم بذبح الكبش، وأخوه لن يأتي إليه إلا بعد ساعتين فاقترح أن نذهب لتهنئة بعض أقاربه وأصدقائه بالعيد، وأيَّدت اقتراحه. وكنا كلما دخلنا إلى بيت من بيوت أولئك الأقارب والأصدقاء قدَّموا لنا لحماً مشوياً وشاياً مغربياً.
وبعد ساعتين من الزيارات الحميمية للتهنئة بالعيد عدنا إلى منزل مضيفي حيث وجدنا أخاه قد ذبح (الحولي) لتوِّه، وحان وقت تعليقه للسلخ، وكانت امرأته قد أوقدت ناراً، فأصبحت جمراً؛ استعداداً لعمل الشواء، وما زلت أذكر دهشتي وإعجابي من قدرة ابنته ذات السبعة عشر ربيعاً المتصفة بمسحة من الجمال على حمل الكبش للتعليق.
وعندما تمَّ سلخه، وشُقَّ بطنه، نُزع غطاء الكرشة من الشحم، وأعطي المرأة التي قطعته إلى أوصال لفَّت بكل واحدة منها - فيما بعد - قطعة من الكبد أو القلب، وأكملت الشواء، الذي نتج عنه لذة، وأي لذة.
وبعد اكتمال ما تقدَّم عاودنا القيام بزيارات المعايدة لأقارب المضيف وأصدقائه ممن لم نزرهم فيما سبق حتى عصر ذلك اليوم، وعند ذاك اصطحبني مضيِّفي معه إلى حفل بلدية المدينة، وراح يقدِّمني إلى من كانوا هناك فرداً فرداً. وكان واحد من أولئك قد ركب معنا السيارة عند مغادرتنا المكان، وألحَّ علي أن أتناول معه الغداء في اليوم التالي، لكني اعتذرت عن عدم تلبية دعوته الكريمة لأني كنت سأغادر الرباط إلى فاس، فما كان منه إلا أن حاول أن يعطيني حقي يابساً - كما يقول المثل الشعبي -؛ إذ ناولني مئة درهم، قلت له: إن أخذي تلك الدراهم لا يجوز في عرف وطننا، لكني سوف آتي إلى المغرب مرة ثانية - إن شاء الله - وحينها سأكون ضيفاً له. فرضي، وودَّعته، وظلَّت المراسلة الودِّية بيني وبينه عدة سنوات.
ذلك شيء مما كان في زيارتي الأولى لبلاد المغرب الجميلة. وكانت تلك الزيارة قد تمَّت قبل ستة وثلاثين عاماً، أي قبل أن يزداد توجُّه عمدان الخيفان إلى هناك، فتلتهم الكثير من سنابل سمعة وطن يحرص المخلصون له على أن تبقى تلك السمعة متعة للناظرين والمتأملين. أما ما كان على هامش تلك الزيارة، وما حدث في زيارات عديدة تلتها، فلهما حديث في حلقات قادمة إن شاء الله.