هناك من القضايا ما قد يستنزف الحديث عنها صحائف وأسفاراً حتى ينضب معينها، وقد يتحول بعد حين إلى ضرب من (الاستفزاز العابث) لأسنة الأقلام، وألسن البشرية، بل وأفئدتهم بلا جدوى ولا جديد، واستثناءً من هذا وذاك.. يبقى الحديث عن عمل المرأة.. أمراً لا ينضب له معين، ولا يعاف ذكره لسان ولا قلم!
* *
* وتتعدد الآراء والمواقف حول هذا الموضوع.. بين (تطرف) شديد يطالب المرأة بالبقاء داخل (أسوار) المنزل كل حين، و(تحرر) مفرط ينشد لها اتجاها مغايراً، و(معتدل) عادل يلتمس لها (سبيلاً وسطاً) بلا إفراط في هذا ولا تفريط في ذاك!
* *
* ومن فرط تزاحم الآراء وتشاحنها، لا يكاد المتابع العاقل يدرك لها حصراً أو مضموناً. ويجسد هذا التعدد جزءاً من حالة الاضطراب والتناقض القائمين في كثير من الأذهان حول المرأة.. والاجتهادات المطروحة للتعريف بدورها ضمن منظومة الأدوار الاجتماعية التي يتقاسمها أفراد المجتمع، رجالاً ونساء.
* وهناك من الناس من ينشد (موقفاً وسطاً) للتعامل مع قضية المرأة، يوائم بين الخصوصية الاجتماعية لها من جهة وشراكتها التنموية مع الرجل من جهة أخرى، ويقنن دخولها سوق العمل وفقاً لذلك.. بل ويذهب أصحاب هذا الموقف، ومنهم كاتب هذه السطور، إلى القول أنه عند نشوء تضارب بين مصلحة الأسرة، ومصلحة العمل، فترجح الأولى على الثانية، كيلا يفقد المجتمع، ممثلاً بالأسرة توازنه، وتحصد الأسرة نفسها المحصلات السلبية الناجمة عن ذلك، مثلما نشهد الآن في مجتمعات الغرب.. وبعض المقلدين لها في الشرق!
* *
* وأود أن أشير في هذا الصوب إلى أن قواعد الخدمة المدنية وإجراءاتها التنفيذية في بلادنا تتبع (سبيلاً وسطاً) في التعامل مع قضية عمل المرأة.. فلم تغفل خصوصيتها الاجتماعية واختلافها عن الرجل في بعض أمور، انطلاقاً من ذلك، لكنها ساوت بين الاثنين حيث لا توجد ذريعة دينية أو اجتماعية تحول دون ذلك، فالمرأة والرجل في ناموس الخدمة المدنية متساويان في قواعد التوظيف والأجر والجزاء والثواب.. ما داما في الأصل متساويين في شروط التأهيل ومعايير الأداء.. ومحصلات الإنتاج!
* *
* وأذكر في هذا السياق أنه كان هناك تفكير لمساعدة المرأة التي لا تسوغ لها ظروفها الأسرية الالتزام بمباشرة نصاب العمل كاملاً، وذلك عبر ما يسمى ب(ترتيبات العمل الجزئي) ليكون (رديفاً) لقواعد التوظيف المتبعة حالياً لا (بديلاً) لها، لكن الدراسة المتأنية لآلية تطبيق هذه الفكرة أثبتت أن سيئاته يفقن الحسنات المرجوة منه، فصرف النظر عنه في حينه.
* *
* وهناك من ساقه التفاؤل بعيداً انطلاقاً من الفكرة ذاتها متمنياً أن يمتد تطبيق هذا النمط من التوظيف إلى معادلة التقاعد، مدة واحتساباً ومعاشاً، وهو أمر يتعذر النظر فيه في ضوء العديد من الاعتبارات والاحتمالات.. الوظيفية والمالية والاجتماعية، ولو فرض مثلاً، أن المرأة العاملة (منحت) ميزة خاصة في التقاعد تؤهلها لمعاش كامل مقابل خدمة أقل، فليس ببعيد أن يحرض هذا الإجراء فريقاً من الرجال ليطلبوا (المعاملة بالمثل).. وهنا، تختلط كثير من الأوراق.. وتزداد الأمور ضبابية وغموضاً! وقد (يغري) هذا بعض (المتحفظين) على عمل المرأة (تهويلاً) لخصوصيتها، فيطالبون بمزيد من (التهميش) لدورها التنموي في المجتمع!
* *
* أخيراً.. ما يقال أحياناً عن فكرة مد نصاب (إجازة الأمومة) بقدر يستوعب المرحلة الحرجة التي تعقب الولادة.. فتلك مسألة فيها نظر، وتستحق قدراً من التأمل.. وقد يُصار مستقبلاً إلى قاعدة جديدة أكثر تلاؤماً مع هذا الظرف الإنساني الدقيق.