كثرة غياباتي هذه الأيام لا تعود إلى الكسل والعياذ بالله. معظم الوقت أكون خارج المملكة بشكل مفاجئ تصور أن تكون على مسافة آلاف الكيلو مترات لكي أصل من مدينة الهواء العليل إلى الرياض تطلب الأمر أكثر من سبع وعشرين ساعة بين طيران ومطارات. المسافة بين مدينة الهواء العليل وباريس اثنتا عشرة ساعة والمسافة من باريس إلى جدة خمس ساعات والمسافة بين جدة والرياض ساعة وبضع ساعة، هذا إذا تحدثنا عن مسار العودة أما مسار الذهاب عليك أن تضيف إليها مدينة سان باولو البرازيلية وهي عكفة لا مبرر لها وقعنا فيها كما وقعنا في آخر الرحلة في طيران ناس. لو كان الأمر مجرد طيران لهان الأمر ولكن الأسوأ هو الانتظار في المطارات. تصور أن تحلق اثنتي عشرة ساعة ثم تنتظر ست ساعات في المطار التالي ثم تحلق ست ساعات ثم تنتظر ساعتين في المطار الذي يليه وهكذا شيل وحط.
دون مكابدة هذه المشقة ما كان لي أن أسافر إلى مدينة الهواء العليل. لا أتخيل أبداً أن تأتي الظروف وتأخذني إلى هناك ولا يمكن أن أفكر في الذهاب إلى هناك سائحا. من سيأخذني إلى قاع العالم الجنوبي في الطرف الآخر من الكرة الأرضية؟ طالما حلمت أن أذهب إلى أمريكا الجنوبية وأشاهد هذا العالم الآخر بعيدا عن التصورات المسبقة وحشر هذه الأمم في الكورة وبعض الأساطير لكن الخوف والبعد والانشغالات المختلفة منعتني من ذلك والأهم (وهذه كارثة ثقافية) أن عالمنا مع الأسف احتبس في أوروبا وأمريكا أصبحنا ندخل ونخرج ونعرف وننظر إلى العالم من خلال تلكما القارتين وثقافتهما. عقودنا واستثماراتنا وسفراتنا وعلاقاتنا وصداقاتنا اقتصرت على ثلاث دول في الأغلب (أمريكا بريطانيا فرنسا) وإذا أردنا الدقة لقلت أن هذه الدول جاءت إلينا ولم نذهب إليها، وإذا دققنا في التاريخ وجدنا أن أصل معرفتنا بها يعود إلى تطلعاتها الاستعمارية القديمة والحديثة. لا نقيم معها علاقات ثقافية سوية. تعلمنا من التاريخ كيف نكره ولم نتعلم كيف نحب ونصادق. على هذه الخلفية صنفنا العالم. تصور دولة بحجم المملكة لا يوجد لديها خط طيران واحد يأخذك إلى أمريكا الجنوبية رأسا. تأخذنا لندن وباريس ومدن أمريكية (والآن دبي) إلى هناك. ندخل ونخرج من بواباتهم. تجربتي الطويلة والجميلة مع الشعوب الاسكندنافية علمتني درسا استفدت منه في تجربتي الأخيرة الأسبوع الماضي في مدينة الهواء العليل العالم ليس أمريكا وبريطانيا وفرنسا العالم مترام مليء بالثقافات المتنوعة. يمكن أن يضيف إلينا ونضيف إليه بعيدا عن الأحقاد والمرارات والإحالات التاريخية. الشعب الأرجنتيني شعب مختلط متعدد الأعراق مثله مثل كثير من شعوب أمريكا الجنوبية لن نعرفه ولن نتواصل معه إذا تركنا الآخرين يصيغون علاقاتنا ووعينا تجاهه. قد نجد في الأرجنتيني رجلا أبيض ونصنفه مع الإنجليز ونحيل عليه الركامات التاريخية كما صنفنا أوروبا كلها بكلمة (الغرب) وأدخلناها في برامج عداواتنا التاريخية. من يذهب إلى بوينس ايرس (الهواء العليل) سيجد أن الأمور تحتاج إلى وعي جديد حتى نكسب أصدقاء جدد.
فاكس 4702164
Yarabakeet@gmail.com