Al Jazirah NewsPaper Tuesday  15/04/2008 G Issue 12983
الثلاثاء 09 ربيع الثاني 1429   العدد  12983
تحولات مركز الكون النقدي وأثرها على المشهد المحلي..! (1-4)
د. حسن بن فهد الهويمل

قد يبدو هذا العنوان غرائبياً، وقد يعده البعض من خداع العناوين أو من باب التلاعب بالألفاظ، وما هو في شيء من ذلك كله؛ فالتَّحوُّل مُسَلَّم أزلي، والحياة بأشيائها وإنسانها كالنهر المتدفق يحسبها الناظر جامدة، وهي تمرُّ مرَّ السحاب.

ومع حتمية الحَوْرِ أو الكوْر فإن لكل شيء ثوابته ومتغيراته، كما الجوهر والعرض، والنقد كون له عوالمه وعوامله، وهو كالأجرام السماوية يدور حول نفسه، ويسبح مع منظومته في فلكه؛ فهو في تقلب وسيرورة، له في كل يوم شأن يغنيه عما سلف، ولا يحول دون ما هو آت، وفي كل دورة تتحول معه مركزية الاهتمام، وهو بامتداده الأفقي والرأسي عبر الزمان والمكان والإنسان والأنساق الثقافية والمعرفية يحمل سمة الكونية المحتملة للتميز والاستقلال عن بقية فنون القول بحيث تكون استقلاليته كاستقلال الكون في فضائه وعناصره وسائر مشمولاته. والنقد كأي كائن حيّ له تخلقه وارتقاؤه في مشاهده، بحيث يكون خلقاً من بعد خلق في تحولاته الثلاثة، وحركته الداخلية وحركته صوب مركزه عند ذوي الاختصاص والتجربة والمعرفة محسوبة الخطوات والاتجاهات، ومن أرادها بدون تقدير دقيق فقد أدخلها في الفوضى المدمرة وقضى عليها بالتآكل.

والنقد في ضوء ضوابطه له جوهره الثابت وعرضه المتحول، وتحوله من خلال جوهره انتقال ذاتي من مركز إلى آخر بحيث لا يكون هناك تبدل في ذاته، أما تحوله في عرضه فحراك داخلي محتوم، وتغير الآليات والمناهج والاهتمامات مرتبط بترتيب الأولويات ومقتضيات التنقل من موقع لآخر.

هذا الكون القولي يتسم بالثبات والتحول الكلي أو الجزئي في آن، والتصور السليم يمنع الاستحالة؛ إذ يوصف بالتحول الكلي حين يتغير مركز اهتمامه المستدعي لتبدل المنهج والآلية، والراصد للحركة النقدية العربية والعالمية يجدها متنقلة بعفوية أو بوعي عبر ثلاثة مراكز:

- منتج النص وما يلحق به من بيئة.

- النصُّ المُنْتَج من حيث البناء والأداء والشكل.

- متلقي النص بوصفه الشخصي أو الاعتباري.

وإذ يكون للمنتج تبعاته ومحققاته، فإن للنص كيفية القول ومحتواه، وللمتلقي مراوحته بين الذات المفردة والكيان الجمعي؛ بوصفه متلقياً يصدق ذلك على الملل والنحل وسائر الأيديولوجيات، ويتحقق الكون النقدي بهذا التنقل بين تلك الحقول الثلاثة، وما يلحق بها من أدلجة أو تسييس؛ فالمتلقي يتحقق من خلال مجموعة القيم لا من خلال الأشياء، وهذه الحقول تعد جماع التحولات لاشتمالها على ما لا نهاية له من التصورات، بحيث لا نجد صعوبة في التماس الانتماء لكل سمة لا تشير لهذه الحقول؛ فالاهتمام بالحواضن والروافد وحياة المبدع وأحواله النفسية والاجتماعية والفكرية وتاريخ الأدب وجغرافياته الحسية والمعنوية يعني ذلك كله أن مركز الكون النقدي يقف حيث يكون المبدع ومتعلقاته.

أما الاهتمام بالنص من حيث هو لغة ببنائها ودلالاتها، ومن حيث الشكل والفن وسائر الوحدات الفنية وما يستدعي ذلك من مناهج وآليات ومذاهب كالبنيوية والتفكيكية والتحويلية وسائر المسميات ذات المساس باللغة والفن فإن ذلك كله يعني أن مركز الكون النقدي يكون في النص الإبداعي.

وحين يستبد المتلقي ويصبح مركز الاهتمام تنسل مذاهب ونظريات تعمق نفوذه كنظرية المعرفة والتلقي والاستقبال والتأويل والمثاقفة والتفكيك وسائر الأيديولوجيات.

والحركة النقدية في المملكة ليست بدعاً من الحركات النقدية الحديثة في الوطن العربي؛ فلقد مرت بهذه الأطوار كلها وشاركت المشاهد في معايشة المخاضات الجديدة، ومهمة البحث رصد هذه التحولات الكلية واستبانة أثرها على المشهد المحلي سلباً أو إيجاباً.

والنقد الأدبي أفق واسع يتسع لكل هذا الحراك والتحول المستمر، وما المعارك الأدبية إلا مخاض طبعي لهذه التحولات؛ فالذين يعلون من شأن المبدع يواجَهون بالذين يصرون على موته، فيما يرى آخرون أن المتلقي هو الكل في الكل. هذه التحولات الحادة والحديَّة جعلت المقاربة إرهاصاً لمزيد من المفارقة، وقد يكون في ذلك ما لم نحتسب من الإثراء المعرفي وتعدد الخيارات، وتناولنا لهذه التحولات لا يرمي إلى تغليب اتجاه على آخر، غير أن التوازن والأخذ من كل شيء بطرف يمنح المشهد النقدي مزيداً من الاستقرار، ولا يعمل على تغييب مهمة لحساب مهمات أخرى قد لا تكون الأفضل.

ومن المسلمات البدهية ارتهان العملية النقدية في تلك الآفاق الثلاثة لا تخرج منها إلا لتعود إليها، وهي المحاور الرئيسة والملحة من بين عدة محاور تمدُّ بسبب إليها، وإن خفيت الصلة على البعض، وأهمية الحديث في تبادل تلك السلطات للمواقع، وتداولها للسلطة، واستبداد كل سلطة بالمشهد النقدي ومصادرة حقوق السلطات الأخرى واستجابة المشاهد لهذا السطو المجحف، ولقد كان أطولها سيطرة على المشهد سلطة (المبدع)، ولم يقترف سلطان النص إعلان موت المؤلف إلا من بعد ما أثخن المبدع في مشاهد النقد، على أن مركزية النص لم تطل، وإن خلفت آثاراً لا يستهان بها بحيث أصبح بعضها من آليات المتلقي الذي أعاد إلى المشهد نظريات المعرفة والاستقبال والتأويل والتلقي مقترفاً جرائر التدمير وطمس معالم المبدع والنص معاً.

هذه الثورات العنيفة داخل مجرَّة النقد بمفهومه الأوسع بسطت نفوذها على مشهدنا النقدي المحلي، وتركت آثارها وتأثيراتها المراوحة بين السلب والإيجاب، ومتى استطعنا تجلية تلك التحولات ومنجزاتها تبدت لنا وجوه المشهد المحلي، وانحلت عُقَدُه، وبطل العجب بمعرفة السبب.

وحين ننظر إلى تحولات مركز الكون النقدي، وتبادل السلطة بين المبدع والنص والمتلقي لا نجهل تبعات هذه المراكز من أدلجة وتسييس يكادان يذيبان هذه المراكز، والانتهاكات الفكرية والسياسية صادرت الفن لحسابها الخاص، وهي حين تستبد في المشاهد تكون مستصحبة لواحد من تلك السلطات الثلاث، وهي في النهاية قسيم المتلقي أو هي من متلق متعسف؛ فالماركسية والوجودية وسائر الاتجاهات الفكرية والنفسية والاجتماعية واللغوية تصطبغ بالأيديولوجيات المهيمنة، ولكنها لا تبرح أفلاكها، وحتى حين استبدت اللغة استجابة لسلطة النص، وبدت الشكلانية التي اتسمت بالهروبية، واندلقت أقتاب المصطلحات التي تجمعها الألسنية والأسلوبية، وهي بعض محققات سلطة النص، تبدت الأيديولوجية الماركسية فارضة سلطتها منتزعة حقها، ومن ثم جاء مصطلح (البنيوية التكوينيَّة) المعروف بالبنيوية الموضوعية، وهو نقد يفكك الدلالة بذات الآليات التي يفكك فيها اللغة، ولقد تقصيت ذلك المنعطف بدراسة معمقة عن (النقد البنيوي للرواية)، ومراوحة النقد بين اللغة من حيث البناء والدلالة أنشأ نظريتين متوازنتين، وخلف دراسات تنظيرية ومترجمات لمَّا تزل قائمة على سوقها، وعلم اللغة وعلم الدلالة صنوان، وهي تحولات في إطار مركزية النص والمتلقي على حد سواء.

والمشهد المحلي لم يكن بمعزل عن تلك التحولات، ولكن المعوق الأكبر طغيان مصطلح الحداثة بكل أبعادها ومفاهيمها، وهي مصطلح مثير وحمَّال أوجه، وهو أقرب إلى الإبداع منه إلى النقد، وإن طغى على المشهد النقدي.

وجدلية القبول والرفض المطلقين حالت دون التحرير والتأصيل، وأبقت على جانب كبير من التسطح والتذوق والتذبذب.

وإذا كان الدرس الأكاديمي في مصر والمغرب قد بادر إلى تلقي المستجد من المذاهب والتيارات، واجتهد في بلورة المفاهيم والمقتضيات فإنه في المشهد المحلي أبعد ما يكون عن التحقيق، ولم يكن الاهتمام بالمستجد حاضر الأقسام الأدبية إلا ما جاء من اجتهادات شخصية، ومن ثم ظلت الدراسات تعتمد على المناهج والآليات القديمة.

وتأثير تلك المستجدات على المشهد المحلي واختلاف النقاد والأدباء حول التحولات مرتهن لجدل المشروعية المطلقة أو المشروطة، والمعارك الأدبية ليست وقفاً على التقليد والتجديد كما يحلو للبعض تصوره، ولكنه حول الاندفاع وراء الأدلجة، والتخلي الكلي عن محققات الذات ومتطلباتها.

.. يتبع



لإبداء الرأي حول هذا المقال أرسل رسالة قصيرة SMS  تبدأ برقم الكاتب 5183 ثم إلى الكود 82244

 

صفحة الجزيرة الرئيسية

الصفحة الرئيسية

رأي الجزيرة

صفحات العدد