يقول تاريخنا المعاصر أن شاه إيران راهن على الخارج، وانصاع للضغوط الخارجية عندما (حدّث)، وطور، وأطلق ثورته (البيضاء) الإصلاحية، فكان هذا الرهان، وهذه الثورة التي سماها (بيضاء) سبب سقوطه وسقوط عرشه إلى الأبد لصالح أصحاب العمائم (السوداء).
كما راهن (مُلا) طالبان، محمد عمر، على الداخل، وأحال أمر تسليم ابن لادن إلى الولايات المتحدة بعد 11 سبتمبر إلى أهل (الحل والعقد) من علماء بلاده، فأفتوه مجتمعين بأن ذلك لا يجوز شرعاً، حتى وإن اضطر للقتال، فانصاع للداخل ورفض ضغوط الخارج، فانتقل هو ونظامه من الجغرافيا إلى التاريخ.
الخارج كان سبب سقوط الشاه، والداخل كان سبب سقوط الملا عمر.
ورغم أن الحالتين متضادتان في الشكل، إلا أنهما تتفقان في السبب، والسبب هنا وهناك كان غياب الموضوعية. فهي السبب عندما انصاع الشاه إلى الخارج، في وقتٍ كان يجب فيه أن يأخذ الداخل بعين الاعتبار.
والموضوعية هي أيضاً ذات السبب التي غيبها الملا عمر عندما تحصن بالداخل، ورفض أن يأخذ الخارج بعين الاعتبار.
فالسياسة هي أولاً وأخيراً وشكلاً وموضوعاً (فن الممكن)، ولم تكن قط معادلات رياضية أو منطقية أو تاريخية أو (ميتافيزيقية)، صالحة لكل مكان وزمان. ولأن السياسة والممكن صنوان لا يفترقان كانت ثورة الشاه البيضاء غير ممكنة في زمانه، كما أن قتال العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتحديه، وإن دعمته (النصوص) وأيده أهل (الحل والعقد) غير (ممكن) أيضاً كما هي تجربة الملا عمر أيضاً. فسقطت التجربتان لغياب (الموضوعية) وليس لأي سببٍ آخر.
ورجل الدولة الذي لا يواكب التطورات، ولا يرضخ للواقع، ولا يساير الظروف، ولا يميل مع رياحها أينما اتجهت، ويصر على المواقف، ويتباهى بعناده، ويفاخر بثباته على مواقفه، هو لا يفقه في السياسة ما يبرر احترافه لها. قد يكون في منتهى القوة و(صلابة الرأس) في الظاهر، ولكنها قوة وصلابة تدميرية، تقضي عليه قبل أن تقضي على الآخرين. كما أن الإباء أو الأنفة هما من الصفات القيادية (المضللة) للسياسي في الذهنية العربية التقليدية، فهاتان المفردتان هي بلغة أخرى ضرب من ضروب (المكابرة والعناد)، وفي أحايين كثيرة هي (الحمق) الذي لا يرقى إليه حمق.
هذه الأبعاد هي ما نطالب طلبة العلم الديني في بلادنا بفهمها وإدراك متطلباتها. فطالما أننا دولة تحكم الشريعة، وتتعامل معها على أساس أنها (مرجعية) لما هو مقبول وما هو مرفوض سياسياً، فإن طالب العلم الديني عليه أن يقرأ مثل هذه الحالات قراءة توازن بين (النص) وبين (المصلحة)، وتقدر المآلات، قبل أن يقرر ما هو حلال وما هو حرام.
فالتمسك بالنص، وتفسيرات السلف لهذا النص، وعدم الاكتراث بالواقع ومتطلباته، قد يقود العباد والبلاد إلى ما لا تحمد عقباه. فقط عودوا إلى التاريخ وانظروا كيف كان عاقبة الذين لا يكترثون بقراءة واقعهم، والقوى المحيطة بهم كما ينبغي، ولعل غزو الدرعية مثال (آخر) ليس بالبعيد لما أريد أن أقوله هنا كما سبق وذكرت في مقال سابق.