تحدثت في مقال سابق عن قضية المطبات الاصطناعية وظاهرة عدم احترام الكثير من قائدي السيارات لأنظمة وقوانين المرور ذات الجانب الأخلاقي، وأنا لا أقصد طبعاً هنا الجانب التقني في المخالفات كتجاوز سرعة أو التفات سريع أو وقوف جانبي خاطئ وما إلى ذلك من المخالفات المرورية، وإنما قصدت تلك التي تتعلق بالجانب الأخلاقي
كالسير على أماكن المشاة والقفز فوق الأرصفة لتفادي الازدحام أو الشراسة في السير حول وأمام الميادين الدائرية ما يعكس أخلاقيات ليس القيادة فقط وإنما أخلاقيات المجتمع بشكل عام، وعرجت أيضاً على مسببات ذلك وتحميل المسؤولية لكل من شارك ولو بجزء بسيط في تربية الأجيال.
وها أنا أعود للكتابة كما ذكرت في ذات المقال عن ظاهرة أخرى وهي للأمانة ليست محصورة لدى مجتمعنا فقط في السعودية بل يشاركنا شرف ممارستها عدد كبير من الدول العربية، ألا وهي ظاهرة التجمهر التي عانى كثيراً منها رجال الأمن ورجال المرور ورجال الدفاع المدني، وعانى قبلهم من أصيب في حادث ما لتأخر وصول العون له بسبب ما تحدثه تلك الفوضى الناتجة عن التجمهر.
إن حاجة كثير من الناس للانطلاق في تصرفات غير محسوبة وشعورهم المستمر بأنهم في رقابة قاتلة ربما من ذويهم ورغبتهم في إخراج العدوانية أو بعض القدرات التي لا يستطيع إخراجها في مواقف عادية وأمام أشخاص عاديين كالأهل والأصدقاء والزملاء، يرون في وقوع الحوادث فرصة عظيمة لإظهار ذلك الشعور وتلك التصرفات، فقد ثبت أن الناس يأتون بكثير من الأفعال وهم في حال تجمع أو تجمهر لا يأتون بها لو كانوا بمفردهم. ولكن من أين تأتي هذه الأفعال، هل من الجمهرة نفسها، أو من الأفراد أنفسهم؟ لقد كان يعتقد في الماضي أن الأفعال تنتج من التجمهر، ولكن كشفت الدراسات الحديثة عن حقيقة صدور هذه الأفعال من الناس أنفسهم، أي من الأفراد الذين يتجمهرون، بحيث أن الفرد في وسط التجمهر إنما يتصرف بوحي من ذاته. ويكشف أكثر ما يكشف عن ذاته وخباياها ودوافعها. إن عملية تكثيف الانفعالات تجعل الجمهور غير المنظم يتصرفون بطريقة مغايرة لأسلوب حياتهم اليومية العادية، كما أن حالة التجمهر هذه تثيرهم أكثر من الوجود في وسط جماعة منظمة أو مضبوطة ومعدة للاستماع والتعقل والمناقشة والتفكير فيما تسمع وترى.
إذن، التجمهر يدفع الشعور إلى حد الفعل الحقيقي ولكنه لا يخلق الشعور من البداية.
والمعروف أن وجود الفرد في وسط جماعة يعطيه شعوراً أقوى بالأمان أكثر مما لو كان بمفرده، على أن التجمهر يختلف عن التجمع أو لنقل أن الجمهرة غير الجماعة، فالجمهرة زائلة أو سريعة الزوال لذا فهي وليدة اللحظة ومؤقتة وتتشكل في ظروف وقتية معينة، إلى جانب أن الأفراد الذين يكونون الجمهرة غير معروفين بعضهم لبعض، ومع ذلك فإنهم كأشخاص لا يوجد بينهم تفاعل أو أخذ وعطاء أو تبادل التأثير. إن الجمهرة غير منظمة، كذلك فليس لها بناء اجتماعي أو تركيب اجتماعي معروف، فيما عدا أن لها قائداً ما.
إن تأثير الجمهرة على الفرد دائماً وقتي ويسير في اتجاه بدائي، وغالباً ما يكون نشاطاً هداماً. أما الجماعات وخصوصاً الجماعات الأولية فإن تأثيرها على الفرد طويل المدى، ودائماً نسبياً ولها تركيب محدد ومعروف وأعضاؤها يعرفون بعضهم البعض وفي الغالب ما يقادون إلى الأعمال الإيجابية الخلاقة والمنطقية.
وعلى ذلك فالجمهرة تثير أو تستجلب اتجاهات بدائية، بينما الجماعة تستجلب اتجاهات خلاقة وجديدة ودائماً ما تكون اتجاهات واقعية.
ومن أسباب التجمهر والرغبة الملحة لدى الكثير في التجمهر عند حدوث أمر ما هو رغبة الفرد محاولة جعل الموقف أكثر قبولاً وأكثر احتمالاً ذلك أن الفرد المحبط يلجأ في الغالب إلى محاولة تغيير اتجاهاتنا إزاء موقف معين وهو أسلوب يعرف بالحيل العقلية أو التبرير والذي يحاول فيه الفرد أن يقول لأنفسنا أن ما نفعله هو أحسن ما يمكن، فإن الأمور ستكون أسوأ مما هي عليه لو لم نفعل هذا، أو أننا نعطي تبريرات حمقاء في الوقت الذي نخفي فيه الدوافع الحقيقية.
إن عدم توفير مساحة لإبراز مقدرات الفرد الذاتية في مرحلة عمرية صغيرة يقود ذلك الشاب إلى النزوع لإثبات قدراته من خلال ما يمكن فعله عند حدوث تجمهر معين لسبب ما، والأمر يعد مقبولاً إذا قام ذلك الشاب بما هو مفيد وإيجابي ولكن وباعتبار عدم تخصص العامة في الإسعافات الأولية وفي فك النزاعات والمخاصمات، إنما يسبب ذلك ربما في زيادة حدوث الكارثة، فلعمليات الإنقاذ قواعد وطرق معينة لا ينبغي لأحد تجاوزها لمجرد شعوره بأن واجباً ما يمليه عليه ضميره كما يفسره هو، يجعله يهب لتقديم النجدة التي ربما تكون نتائجها غير محمودة. إن ذلك الواجب الذي يمليه ضميره عليه إنما هو نزعته لإبراز قدراته الكامنة التي لم يتسن له إبرازها حينما كان طفلاً صغيراً أو لأسباب فرضتها عليه جماعته الصغيرة بالمنزل أو القواعد الصارمة التي مورست عليه في المدرسة وعدم وجود وتوفير أنشطة مدرسية يفرغ خلالها الطفل الشحنات والطاقات التي يحملها.
هناك الكثير من المدارس التي تعتني بطلابها من حيث تنظيم الأنشطة وكثرتها ولكن السؤال الذي يطرح نفسه، هل تعتبر تلك الأنشطة بحق مناسبة لممارسيها أم أنها عبارة عن رغبات وأهواء من الكادر الإداري والمدرسي لمدرسته، هل في نشاط كرة القدم الذي تم تنظيمه بشكل عشوائي فائدة ما، وهل في نشاط تحفيظ القرآن والتركيز على حلقات الدرس فائدة ما. أنا لا أقول بأنه يجب أن يتم استبعاد تلك الأنشطة، لكن من الحكمة أن نقول أنه يجب تحقيق المراد من الأنشطة غير الصفية أو ما يسمى باللامنهجية، فكيف لطالب قضى سبع أو ثمان ساعات على مقاعد خشبية قاسية أمام مدرس يرمي عليه المعلومات وبطريقة التلقين والحشو أن يذهب بعد دوام المدرسة لحضور نشاط نظري آخر كتحفيظ القرآن أو الحديث أو حلقة الأدب وغيرها مما يراها الطالب تكريساً لمفهوم الحشو غير المبرر. خلافاً لمناهجنا التي لا تتناسب وسن الطلاب وحاجاتهم المعرفية، تنهج كثير من المدارس على إقامة أنشطة بحسب أهواء الكادر الإداري دون مشاركة الطلبة باختيارها.
وأنا هنا لست بصدد نقد أسلوب المدارس بالتعاطي مع المشكلة لكن يفترض عند رصد ظاهرة اجتماعية معينة وبعد التأكد من وجودها حتى تستحق أن يطلق عليها ظاهرة، رصد وتبيان أسبابها ودراسة حيثياتها تمهيداً لوضع الحلول أو المقترحات التي نأمل أن تساهم في تخفيف حدة الظاهرة ومن ثم القضاء عليها.
ولو توجهنا بالسؤال إلى أحد أفراد أجهزة الأمن سابقة الذكر وقلنا له ما أكثر ما يؤلمك ويعيق عملك أثناء وقوع حادث كحريق أو حادث تصادم أو نزاع أو شجار لقال كثرة الناس والحيلولة دون الوصول لمكان الحادث الذي ربما ينتج عنه في كثير من الحالات الوفاة بإذن الله لعدم مقدرتنا الوصول للشخص المصاب وإسعافه في الوقت المناسب.
إذن، علينا أن نقوم بتوعية الوالدين بضرورة إيجاد مساحة كافية للأطفال لإخراج قدراتهم وتوفير الوقت والمكان اللازمين لذلك والإشادة بأعمالهم الإيجابية منذ الصغر والاستمرار بذلك مع تقدمهم بالسن وتشجيعهم على ممارسة الهوايات وإيجاد البيئات المناسبة لهم لممارسة هواياتهم وإشباع حاجاتهم النفسية بالانطلاق نحو تحقيق الذات منذ الصغر، وتوعية المدراس والقائمين عليها بضرورة أن يعوا أن النشاط اللامنهجي يجب أن يكون خارج حدود القراءة والكتابة والتلقين والحشو، وأن عليهم دعوة الطلاب لمشاركتهم باختيار ما يناسبهم من أنشطة رياضية وثقافية بعيدة عن المناهج الدراسية وعملية صب المعلومات في أذهانهم.
لابد لنا إن أردنا معالجة ظاهرة اجتماعية أن نتتبع جذورها وأسبابها كما ذكرت سابقاً لإيجاد حلول مناسبة لها، كما يجب أن لا نتحرج من الدخول في موضوعات يعتبرها كثير من الناس من المحظورات ولا أن نهاب نقاش قضية اجتماعية بالتستر عليها ومحاولة إنكارها وما ذلك إلا دافع لزيادتها واستفحالها.
لماذا لا يتم مناقشة الظواهر الاجتماعية السلبية في بلادنا، فبلادنا ليست بلاداً أفلاطونية تخلوا من الظواهر السيئة، فكما يوجد بها ظواهر إيجابية يحسدنا الكثير على وجودها لدينا، هناك أيضاً ظواهر سلبية يحمد الله الكثير على عدم وجودها لديهم؟
هذه دعوة للبدء بتناول جميع الظواهر الاجتماعية السلبية، فبدون إخراج المشكلة وتحديدها لن نستطيع يوماً حلها.
dr.aobaid@gmail.com